ثقافة المعرفةحوارات وآراء

الدين الاجتماعي بين الوضعي والشرعي / د. ممدوح بيطار

لا يزال هناك قدر كبير من الادراك الخاطئ للعلمانية , التي أتت من الغرب وتفاعلت مع شعوب المنطقة خاصة في أوائل القرن العشرين على أثر صدمة الحداثة , وعلى أثر صدمة أخرى تمثلت بالأتاتركية لكمال أتاتورك وبالتطورات التركية , التي أوحت للبعض بأن العلمانية هي الحالة الضدية للاسلام وهي حالة تعارض تام مع الاسلام , ومهما تنوعت اشكال الاسلام وطرق فهمه , وتنوعت أشكال العلمانية وطرق فهمها كاطار لحياة اجتماعية , تبقى هناك حقيقة الدين , التي تعتبر الله مطلق لامتناهي ,وبأنه على كل شيئ قدير .
تعني العلمانية في كل صورها وأشكالها فصل الدين عن الدنيا , أي فصل الدين عن الدولة , والبعض يقول عن السياسة , التي هي في طبيعتها واهتماماتها دنيوية , لله مجاله الخاص وعلاقة الانسان مع الله هي علاقة شخصية ليست اجتماعية , لأن الاجتماعية رديف للسياسية وبالتالي اقرار لايستقيم مع العلمانية التي ترتكز على الفصل , أي على نفي أي صفة سياسية للدين , العلمانية هي طريقة حياة اجتماعية , وبالتالي بالضرورة سياسية , ولا علاقة لها بالانتماء الفردي الذي هو بطبيعته انتماء خاصا.
تأسست النهضة الأوروبية على العلمانية , والعلمانية تسود الآن في المجتمعات الناجحة حسب معايير هذا العصر , سيادة التأخر في منطقة الشرق الأوسط العربي الاسلامي , تجعل من البحث عن اطار يمكن من خلاله صناعة التقدم أمرا منطقيا , اذ لاوجود للانسان العاقل الذي يرفض التقدم , وكأي فكرة جديدة تعرضت العلمانية الى الكثير من سوء الفهم , خاصة في نقطة فصل الدين عن الدولة , اذ اعتقد البعض بأنه في العلمانية الاجتماعية لاوجود للقيم الدينية , والبعض الميال الى التكفير رأى أن العلمانية تكفر كل مؤمن , لذلك رفض العلمانية التكفيرية مشروع وواجب , كواجب العلمانية في محاربة التكفير الديني ,التكفير هو في الحالتين اقصاء , والاقصاء هو نبع رئيسي من منابع المشاكل .
طورت العلمانية مفهموم المقدس عن طريق اعطائه جوهرا بشريا اجتماعيا اقتصاديا (في أوروبا ), وبالتالي أنقذت المفهوم من الاندثار , حولت المقدس الى منظومة محايثة للحياة اليومية الأرضية ,فالقانون الوضعي المتغير والمتطور أصبح بمثابة مقدس, وللمقدس الديني أصبح له فضائه الخاص واستقلاليته , أمنت له الحماية عن طريق ابعاده عن تقلبات وتطورات السياسة وبالتالي امكانية بقائه كمقدس , مكنته من تأهيل نفسه اجتماعيا وليس فرديا خاصا فقط….. اي تأسيس الدين الاجتماعي!! , الذي تحول الى اخلاقيات دنيوية تعتني بالرموز والخطوط العريضة, ولا تتعثر أو تقع في مطب الجزئيات , نتيجة تدخل هذه الأخلاقيات بتفصيلات الحياة اليومية كاللباس أو ممارسة تهنئة الجار المسيحي بأعياده…الخ , العلمانية مكنت الدين في فضائه الأصغر من أن يكون ذو تأثير أكبر , العلمانية مكنت الدين “المقدس ” من أن يكون خادما للانسان , وليس الانسان خادما للمقدس أو عبدا له , وبالتالي استعاد الدين جوهره الأساسي , الذي هو خدمة الانسان .
الاسلام السياسي بخصائصه كدولة ودين بدون كهنوت رسمي وقف عائقا أمام نفسه , ومهما كانت قدسية الاسلام السياسي كدولة لم تعد هذه الخاصة مستقيمة مع هذا العصر , الاسلام السياسي يرفض الكهنوت , الا أنه لايتمكن من منع أي انسان من التمشيخ , اطلاق اسم الفقهاء والعلماء على الطبقة المتمشيخة أنقذ الاسلام نظريا من الكهنوت الكلاسيكي , الا أنه سمح بانفلات الفقهاء والعلماء , ولم يتمكن من ضبطهم , حتى تحولوا الى مرجعية ليست شرعية الا أنها فاعلة شرعيا , هذه التشكيلة زادت من صعوبات تأقلم الاسلام السياسي مع العلمانية مقارنة مع سهولة تأقلم الدين في أوروبا مع العلمانية.
نظرا للجهل والأمية , ارتبك مفهوم العلمانية في اذهان الناس , وبدرجة أعظم ارتبك مفهوم الدين في أذهان الناس أيضا , فالطبقة أو الفئة التي تتعامل مع هذه المواضيع شرحا وتفسيرا وترويجا عند العامة المسلمة هي فئة الفقهاء , الذين اختزلوا الدين الى طقوس وعبادات ثم ترهيبات وترغيبات , واختزلوا العلمانية الى منظومة الحادية همها الوحيد ممارسة الكفر ومحاربة المؤمنين ثم القضاء على أمل المسلم بالجنة.
تفاقمت المشكلة بسبب انعدام امكانية الحوار في مجتمع لاتراث للحوار به , هناك فئة ذات تعليم عصري عال وثقافة غربية , وهناك أغلبية أمية أو ذات تعليم تقليدي بسيط , حوار هذه الفئات مع بعضها البعض كان كحوار الطرشان , لذلك تعثر التنوير التلقائي الذاتي الاجتماعي , وتشنج الانسان البسيط على المنقذ الديني , بينما ازداد الآخر نقمة على الدين , وذلك لاتهام الدين بكونه سببا رئيسيا لغربة الفئات الاجتماعية عن بعضهما البعض ,وغربة العامة عن الحياة , هناك فئة أخرى كان لها الباع الأكبر في تشويه المفاهيم ,هي فئة المتديينين شكليا , هؤلاء يمارسون الاتجار بالدين , يرفعون شعارات دينية لاكتساب الشرعية , بينما مسلكية هذه الفئة ونمط حياتها هو الأبعد عن الدين الذي يروجون له .
الأصل في العلمانية هو تحويل الانسان الى فاعل في الحياة , ..الى قوة تنبع من الذات , وليس انسانا مستجديا لمشيئة الله وخاضعا لارادته. ما تريده العلمانية هو خلق انسان لا ينوء تحت السلبية والاتكالية, العلمانية ترفض الاستسلام لما يسمى حكم الله الذي ينصب الحاكم الجائر ويطالب باطاعته ، العلمانية لاتقر بأن الجوع والفقر من ارادة الله ، ولا تعترف بأن الله هو الذي اراد لنا النكسات والمصائب , فمن يروج لهذه الأفكار والمفاهيم هم رجال الدين الذين ألصقوا بالانسان شخصية أخرى تناقض شخصيته , وبالتالي كونوا منه انسانا مزدوجا تائها بين ذاته وبين الشخصية القدرية الاتكالية السلبية التي ألصقت به . انفصام الانسان هو بمثابة تأسيس لاعاقته ؛ وما الحضارة المعاقة الا نتيجة للانسان المعاق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى