عن العقل حين يؤمن والإيمان حين يعقل / جاد الكريم الجباعي
نتعامل، في هذه المقالة، مع العقل والإيمان بصفتهما مصدرين لفعلين مختلفين ومتباينين من جذرين مختلفين ومتباينين: (عَقَلَ وآمَنَ)، على الصعيد اللغوي، يدل أولهما على فعل متغير بتغير الزمان والمكان وفاعل متغير، ويدل الثاني على انفعال ثابت، على الرغم من تغير الزمان والمكان، وتغير الإنسان (المنفعل) نفسه. كما ننظر إليهما، بصفتهما صفتين للشخص الإنساني، تعيِّنان وجهين من وجوه ماهيته؛ وإن كان من زاويتين مختلفتين، على الصعيد الوجودي (الأنطولوجي)؛ إذ يمكننا أن نقول: الإنسان كائن يؤمن (حيوان مؤمن)، مثلما نقول: الإنسان كائن يعقل، (حيوان عاقل)، على الرغم من التناقض الظاهري في هاتين الصيغتين، نعني الحيوان المؤمن والحيوان العاقل، ويمكن أن نضيف الحيوان الأخلاقي.
يزول هذا التناقض الظاهري حين ندرك أنّ العقل مؤسَّس على اللاعقل؛ أي على طبيعية الكائن، أو فطرته أو غريزته، والإيمان مؤسس على اللاإيمان؛ أي على طبيعية الكائن مرة أخرى. بهذا المعنى فقط يمكن أن نتحدث عن “دين الفطرة”، على نحو ما تحدث جان جاك روسو، حين قال: “بما أننا نرفض الخضوع لأية سلطة بشرية، لا نصادق على أي عقيدة متوارثة في بلد مولدنا، كل ما يمكن أن يهدينا إليه نور العقل، في حدود الطبيعة، هو دين الفطرة”1 . الإيمان، بوجه عام أشمل من الاعتقاد الديني، أو الإيمان الديني. الإيمان الديني مُستغرَق في الإيمان، كما يقول المناطقة، فيمكن للشخص الإنساني أن يؤمن بنظيمة فكرية، مثلاً، مثلما يؤمن بعقيدة دينية.
اقرأ أيضاً: الإيمان المحرِّر والاعتقاد المغلَق عند عبدالجبار الرفاعي
المرجع الأنطولوجي، الذي تستند إليه هذه المقاربة، هو وحدة الكيان الإنساني، “وحدة الشخصية الإنسانية”، أو وحدة الشخص الإنساني (المرأة والرجل)، التي تحرص الأيديولوجيات الدينية وغير الدينية على تشطيرها، بفصل الهوية عن الماهية، أو فصل الماهية عن الوجود، أو فصل المعرفة عن الوجود، علاوة على فصل الأنوثة عن الذكورة. الإنسان هو عالم الإنسان، المجتمع والدولة، حسب تعريف كارل ماركس، وهو الذي وصفه الشيخ ابن عربي بقوله مخاطباً نفسه في كل نفس: “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر” 2.
والمرجع المعرفي، الذي تستهدي به هذه المقاربة هو الديالكتيك،؛ فنحن نعتقد، (نؤمن)، بصلاحيته الدائمة والمتجددة، بدوام العلاقة بين الذات والموضوع، وتجددها. الديالكتيك المفهوم فهماً صحيحاً هو السبيل الوحيد للخروج من أسر الثنائيات المتنافية تنافياً عدمياً؛ أي التي يكون عدم وجود أي من حدّيها شرطاً لوجود الحد الآخر، كثنائية الظلام والنور والخير والشر (والبورجوازية والبروليتاريا عند الشيوعيين) .. إلخ. وفقاً للديالكتيك لا يكون العقل والإيمان مجالين متخارجين ومتنافيين بصورة مطلقة، بل يكونان حدين جدليين، متعارضين، وجود كل منهما هو شرط وجود الآخر، وانتفاء أي منهما هو انتفاء الآخر، وينتج من تعارضهما في كل مرة مركب جديد ليس أياً منهما، يمكن أن نسميه، هنا، العقل المؤمن أو الإيمان العاقل. العلاقة بين العقل والإيمان هنا أكثر من علاقة تضايف3 ؛ إنها علاقة تجادل، يتحول بموجبها العقل إلى إيمان والإيمان إلى عقل، عقل يؤمن وإيمان يعقل.
وحدة العقل والإيمان، مفهومة على هذا النحو، هي، في اعتقادنا، مبدأ معرفي وأخلاقي في الوقت نفسه، هو من المبادئ التي تضمن الطمأنينة للفرد والوحدة والاستقرار للمجتمع، وتستأصل جذور التعصب المغروزة في الجهل والهوى.. ومن ثم، إنّ العقل هو الذي يؤمن. ولكي لا يلتبس الأمر، نقول إنّ القوة العاقلة في الإنسان هي التي تؤمن، فتلبي حاجة الإنسان إلى يقين. لكن القوة العاقلة لا تؤمن إلا بعد شك، ولا تشك إلا بعد إيمان. الشك والإيمان يتناوبان على الروح الإنساني. فحين يضعف الروح، ويستكين، يميل إلى إيمان ثابت، لا يتزعزع، ولا يستنير بنور العقل، فلا ينمو ولا يتجدد، يسمى “الإيمان الأعمى”، ويسميه بعضهم “إيمان العجائز”4 .
فحين يؤمن العقل إنما يؤسس عالمه الداخلي، عالم الإنسان الداخلي، فلا يشك إلا بمقدار ما يعمل على تعرُّف عالمه الخارجي، كما هو، ويعود، في كل مرة، بأفكار جديدة و”حقائق” جديدة، يعيد ترتيب عالمه الداخلي بمقتضاها.
فإذا وسَّعنا مفهوم الشك قليلاً سيلامس حدود النفي أو السلب، وهما علامة على الحرية. لنقل إذاً إن تناوب الإيمان والشك هو تناوب الإثبات والنفي أو الإيجاب والسلب. الإثبات يحيل على النظام، والنفي يحيل على الفوضى، أو العشوائية (الغاوس)، التي تخترق النظام وتحيط به، والفوضى شقيقة الحرية. الإثبات يحيل على القانون، وعلى السلطة، التي تضع القانون، والنفي يحيل على الحرية ومواجهة السلطة بالمعرفة. إنّ نشاط القوة العاقلة يتجلّى دوماً في الإثبات والنفي. فكروا في اللغة التي نتكلمها ونكتبها، فهي لا تخرج عن هاتين الصيغتين: الإثبات (الإيمان) والنفي (العقل).
هوامش:
1 – جان جاك روسو، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، المركز الثقافي العربية، الدار البيضاء وبيروت، 2012، ص 16.
2 – بيت من قصيدة لشيخ المتصوفة، ابن عربي. منها:
دواؤك فيك وما تشعر . . . وداؤك منك وتستنكر
وتحسب أنك جرم صغير . . . وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي . . . بأحرفه يظهر المضمر
3 – علاقة التضايف تعني أن كل تغير يطرأ على أحد العنصرين المتضايفين يطرأ على الآخر.
4 – كلما تقدم الإنسان في السن تتقوى لديه النزعة الإيمانية، وقد يزداد تشدداً وتعصباً.