عائدون

حياة النازحين السوريين في المخيمات ومراكز داخل البلاد / لبنى سالم (*)

يُحكى كثيراً عن حياة السوريين اللاجئين وهواجسهم ومعاناتهم في مخيمات اللجوء ومراكز الإيواء في الدول المضيفة. هنا، ننقل بعضاً من حياة السوريين النازحين في المخيمات ومراكز الإيواء داخل البلاد.

تحتضن المناطق الريفية الأكثر افتقاراً إلى الخدمات في سورية اليوم، سوريين نازحين كثيرين في بقع معزولة عن العالم ووسط ظروف إنسانية سيئة. على الرغم من فقرها، إلا أنّ المخيمات هنا تجذب أعداداً متزايدة من السكان نتيجة الحرب وعمليات القصف التي تطاول مناطقهم الأصلية. ويأتي هؤلاء بمعظمهم من المحافظات السورية الأكثر تضرراً كحلب وحماة والرقة وإدلب ودير الزور.

المخيمات التي تتركز في المناطق الشمالية والجنوبية من سورية ليست الوحيدة التي تضمّ نازحين، بل يقطن آخرون كثر في مراكز إيواء جماعية يقدّر عددها بنحو 3400 مركز، ومعظمها مدارس ومستودعات ومبان بلدية، بالإضافة إلى هياكل مملوكة للقطاع الخاص كالمشاريع السكنية التي لم ينته بناؤها بعد. تجدر الإشارة إلى أنّ أفقر فئات الشعب السوري هي التي تعيش اليوم في المخيمات ومراكز الإيواء. على الرغم من أنّ وضع هؤلاء كان أفضل حالاً قبل سنوات، إلا أنّهم كانوا فقراء كذلك ولم يملكوا ما يستطيعون النجاة به أو توفير ظروف أفضل لأنفسهم وعائلاتهم، فانتهى بهم الحال هنا.

عزلة وعدم تكيّف

في عصر التكنولوجيا وتحوّل العالم إلى “قرية”، يعيش سكان مخيمات النزوح في عزلة تامة عمّا حولهم. وفي الوقت الذي يتابع فيه العالم مجريات المباحثات السياسية حول بلادهم، لا يفعل هؤلاء على الرغم من أنّهم أكثر المعنيين بها. وينشغلون عوضاً عن ذلك بتأمين متطلبات معيشتهم اليومية، فيما تتسرّب إلى مسامعهم اتفاقات الهدنة التي تنشّط حركة الذهاب والإياب إلى المدن والبلدات المحيطة بهم.

العدد الأكبر من المخيمات ومراكز الإيواء لا تشرف عليه أيّ منظمة إنسانية رسمية، بل يُدار محلياً وفقاً للولاءات القبلية أو التبعية للفصائل المعارضة المسيطرة في المنطقة أو للنظام في مناطق سيطرته. وغالباً ما تتدخل الجهة المسيطرة على منطقة المخيم لفرض إدارات محددة موالية لها، وهو ما يتسبب في مشاكل اجتماعية كثيرة داخل المخيم لا سيّما عدم التكيّف. وهذا الأمر يضطر آلاف العائلات إلى التنقل بين مخيم وآخر بحكم التجمعات المناطقية والعشائرية والولاءات والقوانين غير المعلنة.

في السياق، تعاني مراكز الإيواء بمعظمها من اكتظاظ شديد. وعلى الرغم من أنّ النازحين جاؤوا بأكثرهم من بيئات اجتماعية محافظة، إلا أنّ أفضلهم حالاً مضطر إلى العيش مع عائلة أخرى في غرفة واحدة. وفي بعض الأحيان يصل عدد العائلات إلى عشر عائلات، كما في المستودعات أو المساجد والمدارس. ويُجبَرون جميعاً على التكيّف والعيش في مكان واحد مع عائلات غريبة، الأمر الذي يفقد الأفراد جميعاً حقّهم الطبيعي في التمتع بالخصوصية ويقيّد حركة النساء ولباسهنّ طوال اليوم على مدى العام. يُذكر أنّ كثيرين يعمدون إلى فصل المساحات من خلال وضع بعض الستائر، أملاً في خلق ما يشبه الخصوصية.

أمّا في مخيمات النزوح، فإنّ الوضع ليس أفضل حالاً. كلّ المرافق مشتركة، وفي هذه المخيمات يصبح استخدام الحمامات أو الاستحمام في نقاط بعيدة عن الخيم، مخاطرة بالنسبة إلى النساء والأطفال. ومن شأن ذلك أن يتسبب بمشاكل اجتماعية كثيرة وشجارات ويقيّد حرية النساء فيه.

الزبداني “لبّ الخير”.. حكاية قهر وجوع وتشريد سوريّة

أعمال متواضعة

يعاني سكان المخيمات حالة من البطالة طويلة الأمد، نتيجة انعدام فرص العمل وعدم امتلاكهم المال. مع هذا، يجهد كثيرون منهم لإيجاد فرصة وكسب قليل من المال يعينهم على توفير ظروف نزوح أفضل. ويتجه بعضهم إلى العمل في الحقول والأراضي الزراعية، فيما يعمد من يملك سيارة إلى نقل الركاب أو البضائع.

خيمة أبو نذير في مخيّم أطمة للنازحين على الحدود السورية التركية، ليست مكاناً للمبيت فحسب، بل تحوّلت محلاً تجارياً. في نصف خيمته المتواضعة التي لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، يسكن أبو نذير وزوجته. أمّا في نصفها الثاني، فيضع بضائعه وهي ثياب لسكان المخيم. يقول: “لديّ كل شيء وبأسعار رخيصة. أشتريها من القرى المجاورة وأضعها هنا لمن يرغب فيها من سكان المخيم. هكذا أوفّر عليهم السفر إلى القرى لشراء قطعة ثياب”. ويلفت إلى أنّ “مردودها ليس جيداً بالتأكيد. جميعنا فقراء. لو لم نكن كذلك لما كنا هنا”. ويؤكّد على أنّ “البضاعة أشتريها من البالة، بالتالي هي مستعملة لكنّها جيّدة الصنع. أما البضائع الجديدة فلا أشتريها إلا في حال طلبها أحدهم. آخرها كان منذ أكثر من شهر لعريس تزوّج في المخيم”.

منذ سنتين ونصف السنة يسكن أبو نذير وزوجته في هذا المخيم الذي تتوزّع خيمه بين أشجار الزيتون. وهو من بين قليلين تمكّنوا قبل نهاية العام الماضي من بناء جدران بدلاً من شوادر البلاستيك صنعوا منها سقفاً لهم وباتوا يسمّونها داراً. يوضح: “لم أعمد إلى بيع الثياب في العام الماضي لتأمين المأكل أو المشرب، إنّما لبناء هذا الجدار. فالبرد ذبحنا قبل ذلك، وزوجتي تعاني من قصور كلوي ولا تحتمل”.

أزمة اللاجئين… عام على الاتفاق الأوروبي التركي

تعيش على الأمل

من جهتها، أم محمد امرأة أربعينية تعيش في مخيم باب السلامة على الحدود السورية التركية، تفخر بنفسها. تخبر: “أنا امرأة لا تهدأ. هكذا تقول جاراتي”، وتروي الأعمال التي قامت بها في السنة الماضية لتكسب لقمة عيشها انطلاقاً من خيمتها. على الرغم من الظروف السيئة التي يعيشها سكان المخيم، إلا أنّها نجحت في “بيع الباذنجان المخلل والفليفلة ودبس الرمان ودبس البندورة، وكذلك ملابس من الصوف خلال الشتاء. كل ذلك حضّرته هنا، في هذه الخيمة”.

في مخيم باب السلامة حيث يعيش أكثر من 16 ألف نازح في أوضاع مزرية، تفتقر معظم الخيم إلى أدنى ظروف العيش الإنسانية، فيما يعيش سكانه بغالبيتهم العظمى بلا عمل. تقول أم محمد: “لا أحد يبيع ويشتري هنا. أمّا أنا فأنزل إلى ريف حلب وأبيع ما لديّ. في الصيف، أجفف الخضروات كمؤن للشتاء ومن ثم أبيعها. وفي الشتاء، أبيع ملابس الصوف الذي أجيد حياكته منذ زمن. فأنا أحيك ثياباً للأطفال والعرائس”.

في نبرة صوت أم محمد حماسة ملحوظة تشذّ عن حالة اليأس التي تسود المخيم. وهي بخلاف نساء المنطقة، تحمل هاتفاً ذكياً متواضعاً اشترته في نهاية الصيف الماضي. تقول: “هذا من أجل ابني. أكلمه من خلاله. هو يدرس الطب في جامعة حلب ولم أره منذ سنة”. وتشير أم محمد إلى أنّ هاتفها قد يبقى مطفأً لأيام، إلى حين إعادة شحنه من بطارية إحدى السيارات في مقابل 50 ليرة سورية. كذلك لا ينفعها في إجراء اتصالات محلية من المخيم الذي لا تغطّيه شبكات الاتصال السورية.

تكمل أم محمد أنّه “عندما نزحنا من منزلنا في الريف، كان ابني في حلب. لم نتمكّن من التواصل معه إلا بعد أيام. حينها، قلت له بحزم: لا تلحق بنا. إياك أن تفعل! لا أريد أن أراك في المخيمات. عليك أن تنهي دراستك”. وتشدّد على أنّه “أملنا. سوف يتخرج في العام المقبل ويصبح طبيباً. هو آخر ما نملك في الحياة”. يُذكر أنّه منذ نزحت أم محمد، باتت عاجزة عن تأمين مصروف ابنها، “لكنّه يعمل ويدرس ويسكن عند أحد أصدقائه. وأنا أكلمه عندما أنزل إلى الريف وألتقط إرسال الشبكة، لنصف ساعة وأكثر أحياناً”.

أرقام
وفقاً للبيانات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، فإنّ أكثر من نصف السوريين أجبروا على ترك منازلهم منذ بداية الأزمة في سورية، منهم 6.3 ملايين نازح و4.8 ملايين لاجئ مسجّل في دول الجوار و1.2 مليون تقدموا بطلبات لجوء إلى دول أوروبية. واليوم، ما زال نحو مليون منهم يعيش في مراكز النازحين وتجمّعاتهم. إلى ذلك، ومنذ نهاية عام 2015، تشرّد 804 آلاف سوري، وقد توجّه 65 في المائة من النازحين خلال عام 2016 إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري.

وقدّرت المنظمة متوسط عدد السوريين الذين اضطروا إلى النزوح يومياً خلال النصف الأول من عام 2016 بـ 6150 سورياً، فيما يمثّل الأطفال 55 في المائة من سكان مراكز الإيواء ومخيمات النازحين الرسمية وغير الرسمية.

إلى ذلك، 82 في المائة من أماكن تجمّع النازحين تعتمد كلياً على المساعدات الإنسانية لتلبية حاجاتها الأساسية من مياه، فيما 85 في المائة من سكانها غير قادرين على تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية الشهرية من دون مساعدة.
——-
(*) لبنى سالم هي صحفية ومدونة سورية
/ عن موقع “العربي الجديد”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى