الاستعلاء إرهاب أيضا / فاتن حمودي
أصبحت الذات مغتربة عن ذاتها تعاني الضياع والعدم والسقوط”.. بحكمة ألبير كامو أبدأ
لأشير إلى أبشع الحوارات والنقاشات والاختلافات اليوم، تلك المتعلقة بشعوب أسست لحضارات عبر التاريخ، لا سيما مدن مثل دمشق وحلب وبغداد وغيرها من المدن التي يمتد تاريخها إلى ما قبل جلجامش على أرض العراق مرورا ببلاد الشام، وتعيش اليوم اغترابا وتغريبا، ونفيا يمارس على ناسها من الجميع وكأنها مدن الكراهية.
ورغم أن المدن مثل الكائنات الحية، تشيخ وحتى تموت وتفقد قصب السبق الحضاري وقد تستعيده، وطبيعي أن تتنافس المدن والحضارات، وأن يندثر بعضها وأن تولد مدن جديدة، المهم في هذا وذاك هو المسار الموضوعي، فأنْ يوجه إلى شعب من الشعوب صفة هزيل وساقط أو شعب يكره بعضه، أو عدواني، والأنكى أن من يوجه هذه التهمة يبحث عن لحظة مضيئة في تاريخه ليقول هذا تاريخنا أنظروا.
يتجدد هذا الكلام بأشكال مختلفة والجوهر واحد، الغربة والضياع، واختلاط الصور والمعنى ووجه الضحية بجلادها، والتباس الأمر، تلك هي المسألة، التي تتوالد منها الأسئلة، فهل يمضون نحو تأصيل الشر، وتشويه الشعب السوري، وشده إلى هولوكوست يأكل الأخضر واليابس؟
هل نهرب من أعدائنا إلى أعداء جدد، يواصلون ترسيخ المحرقة على السوري وغيره لا سيما الدول التي أرادت أن تتنفس الحرية، حرية الحياة والكرامة تلك التي شهدت الربيع العربي؟
هل بات الواقع الذي نعيشه اليوم، والذي يجتمع عليه وباء مستجد يواجه العالم ويأخذه إلى العزلة، كوفيد 19، إلى جانب وباء الحروب والصراعات، والثورات المضادة التي سرقت الأحلام وجعلتنا نتحسر على دم الشباب، هل نهرب من أعدائنا إلى أعداء جدد، يواصلون ترسيخ المحرقة على السوري وغيره لا سيما الدول التي أرادت أن تتنفس الحرية، حرية الحياة والكرامة تلك التي شهدت الربيع العربي، وعاشت في أثنائه حالات خذلان مخيفة
أسئلة يفتحها الجرح الذي نعيشه، التهميش الذي يتعرض له السوري لا سيما من الأنظمة العربية، التي أغلقت حدودها في وجهه، إلى جانب حرمانه من الكثير من فرص العمل، أو الابتزاز والمضايقة، وهذا يقع تحت حصار من نوع آخر يأخذنا إلى الحيرة والضياع.
حين تذكر دمشق تأتي القاهرة وبغداد وبيروت وحلب وصنعاء، والإسكندرية كحواضر تاريخية حقيقية، تأتي في الشعر وفي التاريخ وفي طريق الحرير أيضا، وهنا أردد ما قاله سعيد عقل “في الشام أنت هوى وفي بيروت أغنية وراحُ \ يا شام يا بوابة التاريخ تحرسك الرماح”.
أمام نظرة الاستعلاء من الآخر العربي، وغير العربي أيضا، نسأل هل الحقيقة قبل كوفيد المستجد، غير ما بعدها؟
وهل 2010 بداية الربيع العربي غير ما بعده؟
نشعر اليوم بتوجس، أين أصبحنا وإلى أين نتجه نحن وبلداننا والعالم على خريطة الجحيم، تلك الخريطة التي وصفها جورج أورويل في روايته 1984، والتي شكّلت استقراءً ورؤية للحاضر الذي نعيشه اليوم، أورويل الذي أكد على حاجة الأنظمة القمعية باستمرار لخلق أعداء، تُهيَّج الغوغاء لتمييع الحقائق، وتشويه الصورة، وهو ما نراه اليوم على الإنترنت، جيوش الكترونية، تحاول خلط الحقائق.
ليس غريبا هذا في زمن يدير ظهره لكل الأخبار ويحوّلها إلى ظلال، فالعالم غير معني لا بالأعاصير ولا العواصف ولا حتى المجاعات والحروب، وكأن هذا الكوكب بات مسكونا بأشباح الخراب والتشويه
اليوم، ثمة تنظيمات سياسية ودينية وتجارية محلية وعابرة للحدود، تعمل على تشويه كل شيء وبذكاء بالغ، وكأن الأنظمة تبحث عن إطار تضع داخله الشعب السوري، وقد ألصقت به تهمة الإرهاب، أو العدوانية، أو الخراب، إلى جانب ما يشهده الواقع من تضارب فكري وتناقض كأن يؤسسون لوزارة سِلْم لكنها تستمر في الحرب، لوزارة حُب لكنها تستمر في تأسيس الكراهية، لميليشيات مدعومة من جهات مختلفة لتشويه الأرض والإنسان، والاقتتال بين سوري وسوري، بين شيعي وشيعي بين سني وسني وبين هؤلاء جميعا، حروب عبثية تشوه كل شيء، ولا يريد العالم أن يجد حلا، بل يريد أن يدخلنا في دراما متشابكة معقدة يوهمنا بأن هذا الخراب لن ينتهي، ويدعونا لحلول فردية والدخول في العزلة وحالة السبات.
في علاقات تتقاطع وتقطع ولا تصل إلا إلى درب الخراب، حيث تتعدد الفصائل والميليشيات تحت مسميات متعددة، أبو الفضل العباس، وحزب الله، وغيرها، ميليشيات طائفية، ساهمت في حرق الأرض والإنسان، داعش والنصرة، إلى جانب فصائل متعددة من الجيش الحر رفعت شارات سوداء، قوى متعددة، ضباط منشقون تحت الإقامة الجبرية في تركيا وغيرها، براميل القتل، حتى باتت سوريا أرض الجحيم.
يختل المنطق وتنتشر الأفكار المضللة، بحيث نصرخ لا حقيقة أبدا كل العالم مزيف، يحاولون الدخول إلى أعماق روحنا ليتأكدوا بأن ضوءا في داخلك قد مات واحترق وبتر
بتنا خلف النوافذ والأبواب مكممين نزحف إلى عزلتنا، وأنى نسير نعثر على صورة المستبد الذي بات له أشقاء كثر يجوبون طول الأرض وعرضها، يختل المنطق وتنتشر الأفكار المضللة، بحيث نصرخ لا حقيقة أبدا كل العالم مزيف، يحاولون الدخول إلى أعماق روحنا ليتأكدوا بأن ضوءا في داخلك قد مات واحترق وبتر.
عماء مخيف تصل بالآخر إلى التعالي عليك وأخذك إلى الحضيض، في عملية يراد منها المحو التام للذات المبدعة والروح الوطنية والقومية والأممية، لوضعك في صورة الانحطاط وكأنها صورة لشعب بأكمله، وهدم أي قدرة على إدراك العالم الفعلي، إذ لا مكان للنسبية التي يرفع البعض لواءها اعتباطا أو مسايرة للمألوف، الخوف من إدراك الحقيقة، أو الواقع ببعد موضوعي في عالم استبد به الرعب، مع الاختزال المستمر لقدرة الأفراد على استخدام الكلمات وانحراف الفكر بعيدا عن أي إنسانية.
نحن نعيش في مجتمعات لا بد من تغييرها وبشكل جذري، ربما نحتاج ألف ثورة لنكون، وكما ذكر أدونيس في “الهويات غير المكتملة” “إن طبيعة النظام السياسي عندنا أشبه بالله على الأرض”، مع تأكيده بأن الشعوب ليست سيئة وإنما هناك أفراد سيئون.
ولم ينسَ بأن يشير إلى الغرب المنفتح الذي لا يساهم قط في خلق مجتمعنا المنفتح بنا، لا يريد علاقات ندية، بل تبعية، يؤكد على هذا متخذا من عراق صدام نموذجا دون أن يشير إلى سوريا، وهذا مأخذ كبير وكبير جدا يتوقف عنده طويلا.
لماذا يسعى بعض المتعالين إلى التعميم وإطلاق صفات مطلقة؟
من هو هذا المتعالي، وإلى أي سمٍّ ينتمي؟
يأخذون دور المستشرق المتطرف، ألا ينتمي التعالي في أفقنا المعاصر إلى آلة القتل والعدوان؟
ولأننا نعيش عصر العبودية ببعد حداثي ملوّن بزمن الطواعين وصناعة الإرهاب والسلاح، والأوبئة، يكفي أن تقف مقابل الجلاد، مقابل الاستبداد وتشير إلى الطغاة، كي يُستأصل وجودك وجذورك بشكل كامل، أو يلاحقك التشويه لتصير في الذل والنكران، فأي تعال أو صفات تلصق بالشعوب هو إرهاب حقيقي.
إنه حالنا في بلاد المشرق العربي، صار الكلام شبيهاً بالصمت، اللاجدوى، العبث، وكأن كلمة العيب أو الخجل سقطت من القواميس وسقط معها الضمير أيضا لأن هدفهم إسقاط الإنسان..
مجرمو الحرب يفوزون بالكراسي، والشعوب تبلع الغصص، لن ينتهي الكلام، ولن تسكتنا الليالي عن الكلام المباح.