المواطن السوري عبد الرحمن الشهبندر ودوره في الثورة والاستقلال
ولد الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في مدينة دمشق عام 1879، من أسرة دمشقية عريقة، والده السيد صالح الشهبندر المتوفي وعمره 6 سنوات فربته أمه. تلقى علومه الابتدائية والثانوية في دمشق ودرس الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت. تخرّج منها عام 1906 فاختارته الجامعة أستاذًا فيها وطبيبًا لطلابها .
في العام وبعد تخرجه اختارته الجامعة أستاذًا فيها وطبيبًا لطلابها.
في العام 1908 عاد الشهبندر إلى دمشق واتّصل ببعض معارضي الحكم العثمانيّ مثل عبد الحميد الزهراوي وبأحرار العرب إثر حدوث الانقلاب العثماني في تموز من تلك السنة، وكان عاملاً كبيراً في تأسيس الجمعيات العربية. لجوء الاتحاديون إلى سياسة البطش والتنكيل بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى دفع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر للفرار إلى العراق هرباً من ملاحقة العثمانيين له، ومنها إلى الهند ومن بعد إلى مصر حيث تولّى رئاسة تحرير جريدة الكوكب ليتركها بعد أن تبيّنت له تبعيّتها للسياسة الإنكليزيّة.
وقد سعى الشهبندر مع ستة من إخوانه السوريين بأخذ عهد من بريطانيا أطلق عليه (عهد السبعة) وهو يقضي بأن كل بلاد عربية يفتحها الجيش العربي تبقى عربية مستقلة، ولهذا جاهر بالدعوة إلى التعاون مع الإنجليز في الحرب العالمية الأولى، ومن ثمّ ساند ثورة الشريف حسين ضد العثمانيين ودعا إلى التطوع في جيشه من أجل مواجهة الأتراك والانفصال عنهم.
عاد الشهبندر إلى دمشق عام 1919 بعد استقلال سورية عن الحكم العثماني، وهيأ مع إخوانه في مختلف الأحزاب الحملة الكافية لإظهار البلاد بالمظهر الذي تنشده من حرية واستقلال تام أمام اللجنة الاستفتائية الأمريكية (لجنة كنغ – كراين) وهي لجنة التحقيق التي عينها الرئيس الأمريكي ولسن في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 للوقوف على آراء أبناء سورية وفلسطين في مستقبل بلادهم، وقد اختار ولسون لرئاسة هذه اللجنة هنري كينغ، رئيس كلية أوبرلين بولاية أوهايو، وتشارلز كراين، وهو رجل أعمال بارز من شيكاغو.
تسلّم الشهبندر وزارة الخارجيّة السورية في الحكومة السورية التي ترأسها هاشم الأتاسي في أيار عام 1920 والتي سقطت بدخول الفرنسيّين وفرضهم الانتداب على سوريّا. أثر معركة ميسلون، التي خاضها المتطوعون السوريون بقياة وزير الحربية يوسف العظمة، غادر الشهبندر سوريا إلى القاهرة، ولكنه ما لبث أن عاد إليها بعد عام وأخذ يعمل في تنظيم الأعمال السياسية لمقاومة الاحتلال الفرنسي، ونتيجة لنشاطه السياسي والوطني هذا، وعلى أثر قدوم المستر (كراين) إلى دمشق عام 1922، واستقباله بمطالبة الجماهير بالحرية والاستقلال، والوفاء بوعد الحلفاء عامة ووعد الأمريكيين خاصة، ولمناداة السوريين بسقوط الانتداب، ألقى الفرنسيون القبض على كثير من البيروتيين والدمشقيين ومنهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وحكم عليه بالسجن عشرين عاماً، والنفي إلى بيت الدين في لبنان، ثم إلى جزيرة أرواد السورية. بعد تسعة عشر شهراً صدر العفو عنه فسافر إلى أوروبا وأميركا للدعاية لقضية الوطن والعروبة حيث كان من أوائل الزعماء السوريين في تلك البلاد الذين يقومون بطرح القضية الوطنية أمام المحافل الدولية.
في تموز عام 1924 عاد الشهبندر إلى دمشق حيث ألّف حزباً سياسياً سماه حزب الشعب وتولى رئاسته، وأخذ يعمل من جديد في تنظيم العمل السياسي ويطالب بإلغاء الانتداب، وإقامة جمهورية سورية . ولتحقيق ذلك بدأ الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الاتصال بزعماء ووجهاء المدن السورية يحثهم على الثورة ضد الاستعمار الفرنسي ويشحن هممهم ويعزز شعورهم الوطني ويطلب منهم بدء الكفاح المسلح لنيل الاستقلال وتحقيق الحلم الوطني بإقامة دولة سورية مستقلة.
كان عبد الرحمن الشهبندر على تواصل مع الزعيم إبراهيم هنانو في المنطقة الشمالية، الذي كان سباقاً في مقاومة قوات الاستعمار الفرنسي منذ أن وطئت الساحل السوري في أوائل العام 1920، وقد دامت أعمال المجاهدين في المنطقة الشمالية حتى 15 نيسان 1926 عام ومن أهم المعارك التي جرت في تلك الفترة معركة تل عمار، والتي كانت آخر معارك الثورة في تلك المنطقة، وجرت في أوائل شهر نيسان 1925.
كما اجتمع الشهبندر مع الوجيه محمد بك العيّاش في دمشق واتفق معه على مد الثورة إلى المنطقة الشرقية، واستطاع العيّاش تشكيل مجموعات ثورية لضرب القوات الفرنسية في مدينة دير الزور، وبالفعل وجه الثوار ضربات مؤلمة للقوات الفرنسية وكان أخرها قتل ضباط فرنسيين في منطقة عين البو جمعة على طريق دير الزور الرقة، ونتيجة الحادثة أصدر المفوض السامي الفرنسي موريس بول ساراي في 5 آب عام 1925 في بيروت قراراً برقم (49 أس) بنفي جميع أفراد أسرة العياش من مدينة دير الزور إلى مدينة جبلة، وحكم على محمود العيّاش مع اثني عشر ثائراً من رفاقه بالإعدام، وتم تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في 15 ايلول عام 1925 في مدينة حلب، كما حكم على محمد العيّاش بالسجن لمدة 20 عاماً في جزيرة أرواد في محافظة طرطوس، وإمعاناً بالتشفي والانتقام اغتالت السلطات الفرنسية عميد الأسرة عياش الحاج في أوائل عام 1926 وأقيمت صلاة الغائب على روح هذا المجاهد في كافة البقاع السورية.
كذلك كان الدكتور عبد الرحمن الشهبندر على تواصل مع القائد فوزي القاوقجي الذي كان يتحضر لإضرام الثورة في مدينة حماة على الرغم من أنه كان معروفاً بولائه الشديد للفرنسيين ونال في جيشهم رتبة عالية ومركزاً (قيادة الجيش الوطني في حماة) قلما يناله غيره من السوريين، ولكن القاوقجي حسبما ورد في مذكرات الشهبندر كان مستاءاً من إلقاء وجهاء وعلماء مدينة حماة في السجون وإهانتهم، وتقسيم البلاد إلى حكومات، واستخدام الأسافل في الوظائف، ورفع الضرائب على المكلفين وإذكاء النعرات الطائفية بين أفراد الشعب السوري، وفي 4 تشرين الأول عام 1925 أعلن القاوقجي الثورة في حماة وضواحيها وكاد أن يستولي على المدينة لولا قصف الطائرات العنيف للأحياء الشعبية فخرج إلى البادية لإثارة القبائل ضد الفرنسيين وتخفيف الضغط عن الثوار في المناطق الأخرى، وقد حقق انتصارات مهمة على القوات الفرنسية وحامياتها وثكناتها وأنزل بها خسائر فادحة حتى أسند إليه مجلس الثورة الوطني قيادة الثورة في منطقة الغوطة ومنحه سلطات واسعة.
دعم الشهبندر الثورة السورية بكل إمكانياته وطاقاته ولكن الثورة بعد سنة من قيامها بدأت تضعف فانسحب الشهبندر مع سلطان الأطرش ورفاقهما إلى الأزرق في الأردن ومن هنالك سافر إلى العراق ومن ثم إلى مصر وذلك بعد صدور حكم فرنسي بإعدامه، فاضطر للبقاء في القاهرة قرابة العشر سنوات، وكان خلالها يعمل للقضية السورية بالإضافة إلى عمله في الطب.
بعد إلغاء حكم الإعدام، عاد عبد الرحمن الشهبندر إلى دمشق في الحادي عشر من أيار عام 1937، فاستقبلته الجماهير استقبالاً حافلاً وأخذ رفاقه وإخوانه وأنصاره ينظمون له احتفالات جماهيرية كل يوم، يحضرها ألوف من رجال الأحياء والوجهاء ومختلف الطبقات، وكان الشهبندر يُلقي في هذه الاحتفالات اليومية خطباً حماسية تهاجم معاهدة عام 1936 مع فرنسا، وتفند بنودها، وتعدد مساوئها، الأمر الذي أدى إلى ضجة في البلاد، وانقسم الشعب على إثرها إلى فئتين، قسم أيد المعاهدة والكتلة الوطنية بقيادة هاشم الأتاسي، وقسم التف حول الدكتور الشهبندر واقتنع بوجهة نظره في تعداد مساوئ المعاهدة وعيوبها وضرورة الكفاح من أجل تحقيق الاستقلال الكامل والسيادة المطلقة.
في صبيحة يوم السادس من تموز عام 1940 قامت مجموعة باغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في عيادته بدمشق في حي الشعلان. ألصقت التهمة يومها بثلاثة من زعماء الكتلة الوطنيّة وهم: سعد الله الجابري وجميل مردم بك ولطفي الحفار ، مما أضطرهم إلى الهروب خارج البلاد بعد صدور مذكرات توقيف بحقهم من قبل السلطات الفرنسية ليلة 15/ 16 تشرين الأول عام 1940. لاحقًا تمّ القبض على الفاعلين واعترفوا بفعلتهم، وأن الدافع إليها كان دافعًا دينيًا، وزعموا أن الشهبندر تعرّض للإسلام في إحدى خطبه، وأنّهم فعلوا فعلتهم انتقاماً وثأرًا للدين الحنيف، فحكمت المحكمة عليهم بالإعدام، ونفّذ فيهم الحكم شنقًا يوم الثالث من شهر شباط عام1941.
كان الشهبندر عقل الثورة السورية الكبرى والمجتمع السوري، واصل عمله بلا توقّف منذ بدايات القرن، ولم يترك مجالاً لمحاولة التنوير والتأثير لم يطرق بابه، فقد عمل في الطب والسياسة والصحافة والتدريس والترجمة وجمع مقالاته في كتاب نشر بعنوان “القضايا العربية الكبرى”، وكتاب “مذكرات الشهبندر”، وبقي من الشهبندر اليوم إرث فكري كبير في فن الزعامة والنضال الوطني وساحة وادعة في قلب دمشق تحمل اسم ساحة الشهبندر.