تموز 2011: عندما عبرت سوريا إلى الحرب / صادق عبد الرحمن و عروة خليفة
«أذكرُ تماماً كيف دخلنا شهر تموز في حمص مع شعور بأن ما يجري يوشك أن يصير حرباً، وكيف خرجنا منه مع شعور بأن الحرب صارت أمراً حتمياً لا مجال لتجنبه. لكننا رغم ذلك واصلنا مظاهراتنا. لم نكن نفكر في الدبابات التي راحت تتكاثر كالفطر خارج ثكناتها في أماكن كثيرة من البلد، ولم نكن نفكر في الموت والتعذيب والحرب الأهلية التي كانت تحدّق في وجوهنا كالغول. كنا نشعر أن سقوط النظام بات في أيدينا، وأنه ليس علينا إلا أن نواصل التظاهر والصراخ في الشوارع. كنا نشعر أننا انتصرنا لمجرد أننا بتنا قادرين على شتيمة حافظ الأسد بأصوات عالية».
صاحب هذه الكلمات هو واحدٌ من متظاهري 2011، من ريف حمص الغربي، كان قد تظاهر خلال تموز في حمص وحماة، وهو لا يزال يعيش في سوريا حتى اليوم؛ يقول أيضاً: «ربما كان الأمل وقتها أن تنجح المظاهرات في إسقاط النظام قبل المنعطف إلى الحرب الشاملة، غير أنه كان لدينا ثقة مطلقة أننا سننتصر في النهاية، بالحرب أو بغيرها».
إلى جانب تباشير الحرب، كانت تلك الفترة تشهد اتساعاً استثنائياً في نطاق التظاهر وأعداد المنخرطين فيه، ويسود اعتقاد لا مجال لتأكيده أن جمعة إرحل في الأول من تموز شهدت أكبر مظاهرة في تاريخ البلد حتى اللحظة، في ساحة العاصي في حماة.
استمرّ بعدها نزول مئات الآلاف إلى الشوارع في كل أنحاء البلد، ولكن ليس في أيام الجمعة بعد الصلاة فقط، بل في بقية أيام الأسبوع التي راح أغلبها يشهد تظاهرات مسائية باتت شبه يومية في مناطق عدة. لكن كيف أمكن لهذا أن يحدث؟ وما الذي كان يفكر فيه النشطاء والمتظاهرون في ذلك الوقت؟ نتحدث بعد عشر سنوات مع نشطاء وناشطات من عدة مناطق سورية، ونحاول أن نرسم معالم ذلك الشهر معهم، وأن نتذكر معاً كيف عبرت الثورة السورية شهر تموز رغم كل شيء.
وائل عبد الحميد ناشط وكاتب صحفي من حمص، يتحدث بدوره عن ما كان يبدو حرباً حتمية يتمنى تجنبها: «في السادس عشر من شهر تموز وقعت حادثة مفصلية في تاريخ حمص، عندما هاجم غاضبون علويون محلات تجارية يملكها أشخاص من الطائفة السنية في أحيائهم وأحرقوها، وذلك رداً على مقتل ثلاثة شبان علويين في حي الوعر. كانت تلك لحظة فصل بين الأحياء العلوية والسنية ستستمر طويلاً بعدها، ومنذ تلك اللحظة بات وجود الدبابات في المدينة أمراً يومياً».
لم يكن مشهد العربات المدرعة جديداً في حمص وقتها، إذ تم استخدامها منذ أوائل شهر أيار في مداهمات وحملات اعتقال، لكن عبد الحميد يشرح أن الدبابات باتت دائمة الحضور منذ أواسط تموز، تماماً مثلما أن الصدام الطائفي لم يكن جديداً لكنه اتخذ أبعاداً أكثر خطورة في تموز؛ يقول: «مبكراً اشتركت مجموعات من مدنيين علويين تم تسليحهم في أعمال الاعتقال والقتل، وهو ما تم الرد عليه بالخطف والقتل المضاد من طرف أشخاص من الأحياء ذات الغالبية السنية، ليبدأ دولاب من الخطف والقتل المتبادل. منذ ما قبل تموز، كان مألوفاً وجود شبّان يخفون أسلحة فردية خفيفة تحت ملابسهم في محيط المظاهرات، وكان يتصدون لمداهمات الأمن والشبيحة. في 21 أيار (مايو)، قبل أن يتحدث أحدٌ علناً عن حماية المظاهرات بالسلاح، شاهدتُ بنفسي بعض الشبيحة المصابين بالرصاص في إحدى المستشفيات. كذلك كنا نسمع عن التعذيب المروع الذي يتعرّض له جرحى المظاهرات في مشافي حمص، وبالنسبة لي شخصياً، كنت وقتها أفضّل الموت على الاعتقال».
يشرح وائل أنه «لم يتم خوض نقاشات واسعة في حمص حول السلمية والسلاح إذا كان المقصود استخدام السلاح الفردي لحماية المظاهرات، فهذا فرض نفسه كأمر واقع لم يناقشه أحد، لكن شهر تموز شهد نقاشات حادة في أوساط الثوار حول الانتقال إلى مهاجمة الحواجز وطرد النظام بالقوة من بعض المناطق، وهو ما كان لا يزال يرفضه كثيرون».
وسط هذه الظروف، تواصلت المظاهرات في عشرات المناطق والأحياء من حمص وريفها، وتزايدت أعداد الضحايا، حتى أن شهر تموز حمل في الثاني والعشرين منه جمعة خاصة باسم أحفاد خالد، في إشارة إلى ضريح ومسجد خالد بن الوليد في المدينة، وفي تحية للمدينة وثورتها بعد تصعيد النظام لعنفه واستخدام جيشه في المدينة في النصف الثاني من الشهر.
في حوران كان الوضع مشابهاً لحمص من حيث حضور الجيش إلى جوار الأمن، وإن كان مختلفاً على صعيد حضور الأبعاد الطائفية التي «لم يكن لها وجود بارز في درعا في ذلك الوقت» بحسب الناشطة سارة الحوارني. كانت سارة وقتها في درعا البلد، وتقول إنه في تموز 2011 «كان الجيش منتشراً جنباً إلى جنب مع الأجهزة الأمنية في سائر أنحاء درعا، يقطعون بالحواجز والقناصة أوصال المحافظة قدر إمكانهم، ويحاولون بالاقتحامات والمداهمات المتكررة إنهاء الثورة. كان واضحاً بالنسبة لنا أن الكلمة والقيادة لضباط الأجهزة الأمنية أثناء الاقتحامات وبعدها. كان عناصر الجيش عموماً أقل قسوة، وكان بعضهم يظهرون شيئاً من التعاطف مع الأهالي، وحتى مع المتظاهرين في بعض الأحيان».
كان المتظاهرون يخرجون من المساجد في أيام الجمعة إذا أمكنهم ذلك، ويتظاهرون داخل الأحياء المحاصرة في بقية أيام الأسبوع إذا أمكنهم ذلك أيضاً، بالإضافة إلى التكبيرات والقرع على الأواني ليلاً وكتابة الشعارات المناهضة للنظام. تشرح الحوراني أنه «كان هناك تنسيق كبير بين سائر مناطق حوران، حتى أن مظاهرات كانت تخرج في مناطق معينة لتخفيف الضغط الأمني عن مناطق أخرى»، وتضيف: «كانت تنتشر مجموعات لتحذير المتظاهرين بالصفارات قبل وصول عناصر الأمن، في محاولة لتخفيف أعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين. كذلك كان شباب يحملون أسلحة خفيفة ويخوضون اشتباكات متفرقة مع الأمن مناطق عدة. لم يكن التسليح قد ظهر بشكل منظم بعد، وكان الرأي الأكثر شيوعاً في أوساط منظمي الحراك الثوري هو ضرورة الحفاظ على سلمية الثورة قدر الإمكان».
تتحدث سارة عن ملامح الحرب المخيفة في مشاهد المدرعات والحواجز والقناصة، وفي ظهور شبان مسلحين معارضين للنظام، لكنها تقول إن «التراجع عن الثورة لم يكن احتمالاً وارداً في أذهاننا رغم كل هذا، لأن التراجع في ذلك الوقت كان يعني بالنسبة لنا تفريطاً بدماء أهلنا الذين استشهدوا».
في دير الزور كانت الحرب تطل برأسها أيضاً، فيما كانت المدينة وبلدات عديدة في ريفها تشهد مظاهرات حاشدة ضد النظام منذ آذار، لعلّ من أشهرها مظاهرات جمعة سقوط الشرعية في الرابع والعشرين من حزيران.
معاوية خضر أحد ناشطي الحراك السلمي في المدينة خلال ذلك الوقت، يقول: «بدأت دوريات الأمن تتحرك بسرعة في الأحياء، وتطلق النيران عشوائياً على المارّة أحياناً، ما أدى لاستشهاد عدد من المدنيين من بينهم على ما أذكر الشاب عامر زمزم. كانت تلك الاستفزازات تحدث من دون أي سبب ظاهر، بمعنى أنها لم تكن ردّاً على مظاهرات أو أحداث ما».
استمرت المظاهرات في مدينة دير الزور بشكل يومي، وفي الأسبوع الأخير من شهر تموز، قامت قوات الأمن بمحاصرة حي الحويقة في المدينة، ومن أجل تخفيف الضغط على الحي تظاهر الأهالي في المنطقة المقابلة على الطرف الآخر من نهر الفرات، ليقوم الأمن بإطلاق الرصاص المباشر عليهم ويتسبب باستشهاد ثلاثة شبّان. رداً على ذلك، قام المتظاهرون بإحراق مقر فرع حزب البعث في المدينة، و«بدأت الدعوات للعسكرة تتصاعد من أجل حماية المتظاهرين»، يتابع معاوية في حديثه للجمهورية: «كان واضحاً أنّ النظام يحاول دفع الناس نحو العسكرة من خلال تصعيد العنف وقتل المدنيين. سيصبح هذا أوضح لاحقاً عندما سيخبرنا ضباط منشقون أن قيادات أمنية حضرت إلى مدينة دير الزور في بداية شهر تموز، وأعدت خطة لاقتحام المدينة وتطويقها، هذا على الرغم من عدم وجود مقاتلين فيها».
بالفعل، سيبدأ النظام بتنفيذ اقتحامات عسكرية متتالية لدير الزور وأحياء ومناطق فيها منذ أواخر تموز، فيما ستتصاعد الدعوات لحمل السلاح في أوساط الثائرين هناك، وستزداد مظاهر المقاومة المسلحة تدريجياً. لكن المسارات لم تكن واحدة في كل مناطق البلد، لأن مناطق أخرى عديدة كانت تكافح من أجل إنجاح فعل التظاهر نفسه، ومنها مدينة حلب التي شهدت دعوات إلى الخروج في تظاهرات تحت شعار «بركان حلب» في الثلاثين من حزيران. كان التظاهر دون المستوى الذي أراده نشطاء الثورة وناشطاتها، لكن محاولات التظاهر الحثيثة استمرت رغم القبضة الأمنية الصارمة للنظام، وصولاً إلى خروج آلاف المتظاهرين في الأسابيع اللاحقة، ذلك بينما كانت حضور التظاهرات في أرياف المدينة أكثر اتساعاً.
فخري حاج بكّار أحد ناشطي مدينة حلب، والعضو السابق لمجلس مدينة حلب الحرة، يقول في حديثه للجمهورية: «بدأت النقاشات في حلب حول السلمية والسلاح ومسار الثورة السياسي العام منذ ذلك الوقت فعلاً، لكن نتيجة تأثير الأحداث في مدينة حمص وغيرها من مناطق البلد الأخرى، وليس بشأن حلب بالذات. كان الانقسام حول الموضوع كبيراً، ولكن الموضوع لن يصبح تحدياً محلياً راهناً بالنسبة للثورة في حلب حتى العام 2012».
للعاصمة دمشق وأريافها خصوصية أيضاً، فهي وإن كانت قد شهدت حتى ذلك الوقت مظاهرات أوسع بكثير مما شهدته حلب، إلا أن حلم التجمع في ساحة رئيسية كبرى على غرار ميدان التحرير المصري كان قد تلاشى. كان انتشار عناصر أمن النظام الكثيف يحول دون خروج المظاهرات أصلاً في مناطق كثيرة من المدينة وبلدات ريفها القريبة منها، أو يحول دون استمرارها بحيث تكبر أنو تلتحم ببعضها بعضاً لتكوين مظاهرات أكبر. يقول أحد النشطاء الذين تحدثنا إليهم إن «كل تنسيقية في كل حي كانت تعمل على إنجاح مظاهرتها الخاصة بعد أن شعرنا باستحالة التقاء التظاهرات». كانت جميع أحياء دمشق تقريباً، عدا أحياء وسط المدينة، تشهد مظاهرات في ذلك الوقت، وكان الرصاص الحي ينتظر أي مظاهرة تحاول الخروج من قلب أي حيّ إلى أحد طرقات المدينة الرئيسية، فضلاً عن المداهمات والاقتحامات والاعتقالات التي تعقب التظاهرات.
في جمعة أسرى الحرية في 15 تموز ارتكب النظام مذبحة في حي القابون الدمشقي راح ضحيتها أربعة عشر متظاهراً. كان هناك حديث سبق المذبحة عن أن اجتماعاً موسعاً للمعارضة تحت مسمى مؤتمر الإنقاذ سينعقد في اسطنبول ودمشق بالتزامن يوم 16 تموز، وسيكون مقر المؤتمر في حي القابون. اعتبرت المعارضة أن المذبحة تهدف إلى منع انعقاد المؤتمر في الداخل السوري، وحضرت الشخصيات المعارضة في الداخل السوري أعمال المؤتمر عبر الانترنت دون لقاء فيزيائي. يقول من تحدثنا معهم إن هذه الحادثة كانت مؤثرة جداً على صعيد تزايد أعداد الموافقين على حمل السلاح في أوساط الثورة، حتى أن النصف الثاني من تموز شهد تحوّل كثيرين من الدفاع عن سلمية الحراك إلى قبول فكرة حضور السلاح. ليس بسبب هذه الحادثة فقط، بل كان الجو العام يسير في هذا الاتجاه على وقع العنف الدموي في أنحاء البلد.
تقول غيفارا نمر، وهي من أعضاء تنسيقية أيام الحرية في مدينة دمشق خلال تلك الفترة: «كان الحديث حول السلمية والسلاح فعلاً أحد أبرز مواضيع نقاشنا آنذاك. لكننا لاحقاً ومع احتدام العمليات العسكرية بتنا نحسّ بالعجز، ومع ازدياد البطش أصبحنا كمُنادين بالاستمرار في العمل السلمي أقليّة بين الناشطين والثوار. عندما أصبحتُ أسمع أصوات القصف والاشتباكات من شرفة منزلي، لم يكن بإمكاني تجاهلها. كان هناك أناس يموتون يومياً في تلك العمليات. أصبحت حججنا أقل إقناعاً مع الوقت. أحسُّ اليوم أننا لم نكن جزءاً من المعادلة أو اتخاذ ذلك القرار. لقد تحولت الأوضاع فجأةً بالنسبة لنا».
كان نقاش الانتقال إلى السلاح أكثر راهنية في ريف دمشق منه في قلب العاصمة، إذ راحت تظهر فيه مجموعات تتصدى للنظام بأسلحة خفيفة فيما راح النظام يستخدم جيشه على نطاق أوسع. يقول محمد زيتون، عضو تنسيقية حرستا، للجمهورية: «تحدث أحد المتظاهرين داعياً إلى التسلّح بعد أن أصيب بالرصاص في مظاهرة الجمعة العظيمة في نيسان، فردّ عليه أحد أقربائه بصرامة معلناً رفضه التام للعمل المسلح ضد النظام. للمفارقة، كان الشخص الرافض للتسلّح هو علي عفوف، الذي أسَّسَ لاحقاً لواء درع العاصمة أحد أبرز فصائل المدينة العسكرية».
في حرستا كما في غيرها من بلدات ريف دمشق ستستمرّ غلبة الأصوات السلمية حتى أواخر شهر تموز، ثم ستتراجع رويداً رويداً لصالح السلاح، الذي سيتأخر «القرار النهائي الشامل باللجوء إليه»، حسب زيتون، إلى مطلع العام 2012.
تقول سيدة من اللاذقية، كانت وقتها تنشط في دمشق بشكل رئيسي، إنها تتذكر من تموز بالذات «نقاشات صاخبة حول ضرورة حماية المظاهرات بالسلاح من عدمها، وخلافات بشأن بعض الشعارات الطائفية والدينية التي كانت تخرج في بعض التظاهرات، وكذلك حول آليات تسمية الجمعة عبر الانترنت وتأثير الحسابات الوهمية على النتائج ومدى تمثيلها لما يريده المتظاهرون فعلاً». أما في اللاذقية مدينتها فهي لم تشارك بفعالية، لكنها تتذكر أن إمكانية التظاهر فيها «كانت قد باتت محصورة داخل أزقة أحياء فقيرة ضيقة أبرزها الرمل الجنوبي، بعد أن تم قمع الحراك في أحياء المدينة الأخرى عبر العنف الشديد، ومجزرتين على الأقل».
في الساحل السوري كان عاملان رئيسيان قد ساهما في تراجع الحراك الثوري منذ أواسط حزيران، بعد أن كانت مظاهرات عديدة ضخمة قد خرجت في مدن اللاذقية وجبلة وبانياس، بالإضافة إلى مظاهرات قليلة في طرطوس يُرجَّح أن أكبرها من نحو ألف متظاهر في الجمعة العظيمة في نيسان (أبريل) 2011.
العامل الأول هو العنف الشديد طبعاً، الذي كان قد خلّفَ حتى تموز عشرات القتلى ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين في اللاذقية وجبلة وبانياس، في حين أن المظاهرات لم تتسع في طرطوس بل أمكن للنظام احتواؤها بالاعتقالات والترهيب. أما العامل الثاني الحاسم فكان اصطفاف الغالبية العظمى من أبناء الطائفة العلوية، وهم أغلب سكان الساحل السوري، إلى جانب النظام، بالتزامن مع استقطاب طائفي سني علوي حادّ يحمل في داخله ملامح المذابح والحرب الأهلية. يقول أحد النشطاء من أبناء طرطوس: «في ذلك الوقت بات أغلب النشطاء والناشطات من أبناء الطائفة العلوية يخشون التعبير عن رأيهم المؤيد للثورة علناً في أوساطهم الاجتماعية بعد تصاعد الاستقطاب الطائفي، فيما بات كثير من أبناء الطائفة السنية يعتبرون أن مواصلة الحراك في الساحل تعني مجازر دون طائل. لذلك، راح كثير من أبناء الساحل يتجهون إلى دعم الحراك والمشاركة فيه مناطق أخرى، فيما واصل آخرون محاولاتهم للتظاهر في الساحل رغم كل شيء».
في إدلب كانت المظاهرات قد عمت أغلب المدن والبلدات والقرى، وكانت المحافظة قد شهدت أول ملامح الصراع العسكري في أحداث جسر الشغور وانشقاق المقدّم حسين الهرموش وتأسيس لواء الضباط الأحرار. كذلك، شهد النصف الثاني من حزيران أول حركة نزوح جماعي من ريف إدلب إلى تركيا، وذلك نتيجة انتشار الجيش النظامي في مناطق متاخمة للحدود. منهل باريش من أبناء سراقب في ريف إدلب، وهو معارض سوري وعضو مؤسس في لجان التنسيق المحلية، يقول إن المَعلَم الأساسي لشهر تموز كان «التزايد الكبير في متتالية هندسية لأعداد المنشقين، من جنود وضباط، عن جيش النظام». لكن رغم ذلك، يقول باريش إن «الرهان كان على استمرار التظاهرات، ولم يكن هناك رأي شائع وقتها، حتى لدى من حملوا السلاح مبكراً من منشقين أو مدنيين، أنه سيتم كسر النظام عسكرياً. كان الهدف من استخدام السلاح كفّ يد النظام والحد من قدرته على البلطجة والترهيب، وبشكل أساسي الحد من قدرته على تنفيذ المداهمات وحملات الاعتقالات في البلدات والقرى، التي كان عناصر الأمن يرتكبون خلالها انتهاكات وعمليات إذلال وترويع».
يقول باريش إن «أشكالاً متنوعة من محاولات التنظيم والتنسيق كانت موجودة في إدلب وريفها، وفي عموم المناطق الثائرة أيضاً، شملت تشكيل تنسيقيات ولجان واتحادات ومجالس قيادية متنوعة. وكان هناك خلافات ونقاشات حادة تتعلق بحماسة البعض إلى تعميم استخدام السلاح ضد النظام، وخاصة ذوي الميول الإسلامية من السلفيين أو الطيف الإخواني، فيما كان آخرون مصرين على ضرورة إبقاء استخدام السلاح في أضيق نطاق ممكن. كذلك راحت تظهر ممارسات من قبيل الاعتداء على الأملاك العامة أو الخطف وطلب الفدية من جانب مجموعات حملت السلاح بذريعة مقاومة النظام، وكانت تنشأ خلافات حول الأسلوب الأمثل للتعامل مع المجموعات المسؤولة عنها».
بالإضافة إلى هذه الأسئلة والتحديات، كان المتظاهرون والنشطاء قد تراجعوا عن فكرة تنظيم مظاهرات مركزية كبرى في المدن الرئيسية، وذلك نتيجة عنف النظام الشديد على الطرقات الواصلة بين المدن والقرى، والتي أصبحت مليئة بالحواجز ونقاط تمركز الأمن والجيش. بدلاً من ذلك، يقول باريش إن «اللجان والتنسيقيات راحت تفكر في كيفية تنظيم واستدامة الحراك محلياً في كل قرية وبلدة ومدينة، وفي كيفية مواجهة استحقاقات إنسانية وإغاثية كبرى أبرزها تأمين علاج الجرحى وإعانة عوائل الشهداء والمعتقلين وتأمين المنشقين وعائلاتهم، وهي التحديات التي ستصبح أكثر ثقلاً وصعوبة في الأشهر اللاحقة».
في عموم البلاد، كان هناك تيارات ونشطاء وناشطات يسعون للحفاظ على المسار السلمي. بالمقابل، كان تكاتف الظروف العامة مع إرادة جهات محلية وإقليمية يدفع نحو تسلّح الثورة. يقول أسامة نصار عضو لجان التنسيق المحلية في ذلك الوقت: «بالعودة إلى تلك الأحداث، أظن أنّ أربعة عوامل ساهمت في تلك النقلة نحو العمل المسلح. بالإضافة إلى العنف الشديد من النظام في المقام الأول، جاء تطبيع عدد من المثقفين والمعارضين السياسيين مع هذا التوجه ليساهم في إعطاء شرعية للعمل المسلح، كما أنّ انطلاق الثورة السورية في ضوء ما حدث في ليبيا قبل أشهر قد أوحى بأنّ التحول نحو السلاح سيكون خطوةً للتدخل العسكري الدولي، وهو ما كان بعض المعارضين يؤكّدونه بناءً على معلومات ادعوا الحصول عليها من الولايات المتحدة. إلى جانب ذلك، في رأيي، كان هناك عامل آخر هو عدم قدرتنا كداعين للمقاومة السلمية على تقديم أمثلة أخرى غير التظاهر، وهو ما أضعف حشد الناس حول الفكرة التي أصبحت أقلّ إقناعاً تدريجياً مع كل القمع الذي حصل».
* * * * *
كانت ساحة العاصي في مدينة حماة قد صارت رمزاً من رموز ثورة السوريين، بعد انسحاب قوات النظام الأمنية من شوارع المدينة في أعقاب خروج عشرات آلاف المتظاهرين لتشييع شهدائهم الذين سقطوا في جمعة أطفال الحرية مطلع حزيران. باتت المدينة خارج سيطرة النظام تقريباً، فيما كانت قواته الأمنية والعسكرية تطوّقها من كل الجهات، وتحاول قمع الحراك عبر الحصار والمداهمات الدموية كما في يومي الرابع والخامس من تموز. وطوال شهري حزيران وتموز، شهدت الساحة تظاهرات تجاوز عدد المشاركين في بعضها مئة وخمسين ألف متظاهر، وكان بعضها أشبه بكرنفالات احتفالية منظمة كما في جمعة أحفاد خالد، التي شهدت رسم علم سوري ضخم باستخدام رايات ملونة حملها المتظاهرون المصطفون وسط الساحة. لم يكن ذاك العلم قد صار بالنسبة للثائرين «علم النظام» بعد، فيما كانت المظاهرات تشهد حضوراً متزايداً تدريجياً لعلم الاستقلال إلى جوار العلم السوري الرسمي.
في التاسع والعشرين من تموز، شهدت أنحاء سوريا، بما في ذلك ساحة العاصي طبعاً، مظاهرات جمعة ضخمة تحت شعار «صمتكم يقتلنا»، في رسالة إلى العالم أجمع على وقع تصاعد عنف النظام ودمويته. فيما شهد اليوم نفسه أيضاً الإعلان عن تأسيس الجيش السوري الحر على يد مجموعة من الضباط والجنود المنشقين بقيادة العقيد رياض الأسعد، محددين أهدافهم بالدفاع عن المدنيين والمتظاهرين والتصدي لقوات النظام الأمنية في سائر أنحاء البلد وتشكيل جيش وطني سوري جديد.
في الحادي والثلاثين من تموز اقتحمَ النظام السوري، بجيشه وقواته الأمنية، مدينة حماة في عملية عسكرية واسعة راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات المعتقلين. ستتمركز المدرعات الأسدية في ساحة العاصي منذ ذلك الوقت معلنة نهاية مشهد الساحة الملحميّ، فيما سيشهد ليلُ اليوم نفسه خروج عشرات المظاهرات بعد صلوات التراويح تضامناً مع حماة وأهلها، ليصبح الخروج بعد تراويح رمضان طقساً جديداً من طقوس الثورة السورية.
يحمل إنهاء مظاهرات ساحة العاصي تحت جنازير المدرعات في آخر تموز بعداً رمزياً هائلاً، وإذ يتفق جميع من تحدثنا معهم على أنه لم يكن هناك لحظة انعطاف حاسمة في انتقال النظام من الحل الأمني إلى الحل العسكري، ولا في انتقال الثورة من السلمية إلى السلاح، بل كانت التحولات تدريجية، فإنهم يتفقون أيضاً على أن اقتحام حماة كان لحظة مفصلية في تاريخ الثورة والبلد. يقول المتظاهر الحمصي الذي بدأنا الحديث معه: «لا أعرف على ماذا كنا نراهن في ذلك الوقت. لعلّنا كنا نفكر في نموذج ليبي يهرع فيه العالم لحمايتنا من الإبادة بعد أن نحمل السلاح ضد النظام ونشكل هيئة سياسية بديلة عنه؟ أم أننا كنا نفكر في أن بشار الأسد سيلقي خطاب التنحي بعد أن يعجز عن قمع التظاهرات؟ لا أعرف؛ يصعب عليّ أن ألتقط الفكرة التي كانت تدور في بالي وقتها، لكنني أتذكر بوضوح فكرة أخرى، وهي اليقين بأن شيئاً في الدنيا لا يمكنه هزيمتنا. ولقد هُزمنا في النهاية، نعم، وها أنا لا أزال في سوريا بعد عشر سنوات خاضعاً لحكم الأسد بعد أن نجوت بمحض الصدفة، لكن ثمة شعوراً ينتابني إلى جانب كثير من الحزن والأسف، وهو الشعور بالفخر لأن السوريين تمكّنوا من فعل هذا ذات يوم».