“العقد الاجتماعي” شمال شرقي سوريا.. التحديات وعوامل الفشل
في حزيران الماضي، أعلنت “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا عن تشكيل لجنة لإعادة صياغة “ميثاق العقد الاجتماعي”، مكونة من 157 عضوًا، لتعلن “الإدارة” بعد أسابيع اختزالها بـ30 عضوًا فقط.
تأتي هذه المبادرة وسط انتقادات وُجهت لـ”العقد الاجتماعي” الذي أغفل عند صدوره أول مرة، عام 2014، عدة مبادئ حقوقية أساسية، مثل حظر الاعتقال التعسفي، والحق في المراجعة القضائية دون إبطاء، والحق في محامٍ خلال الإجراءات الجنائية، وفق تقرير “هيومن رايتش ووتش”، بالإضافة إلى عدة إشكاليات أساسية ضمن ديباجة “الميثاق”.
في آب الماضي، قال الحقوقي عبد الله العريان، المقيم في مدينة الرقة شمالي سوريا، إن “العقد الاجتماعي السابق كُتب على عجل وبطريقة يسارية اشتراكية، ولم يشارك في صياغته ممثلون عن المناطق كافة”، التي كانت لا تزال تحت حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”.
واعتبر الحقوقي أن إعداد “العقد الاجتماعي” هذه المرة يحتاج إلى حرفية ومهنية عالية، ويجب ألا يشارك موظفو “الإدارة الذاتية” في صياغته، لأن نطاق تفكيرهم سينحصر ضمن نطاق عمل “الإدارة”.
وبحسب ما يراه الحقوقي العريان، فإن مشاركة حقوقيين في صياغة “العقد الاجتماعي” سيسهم في إنجاحه.
———
“”يُعرف “ميثاق العقد الاجتماعي” وفق “الإدارة الذاتية” بأنه مجموعة من القوانين والقواعد التنظيمية والمرجعيات الإدارية، يجب على المؤسسات اتباعها في تعاملها مع السكان ليحدد العقد العلاقة بين الفرد والمسؤول.
ويعتبر “الميثاق” المعمول به حاليًا في مناطق “الإدارة الذاتية”، نتيجة لتوافقات بين الأحزاب الكردية في المنطقة، وشكلًا من أشكال الاتفاق لإدارة المناطق بعد أن انسحب منها النظام السوري في عام 2012.””
———
فشل في تحقيق “الأمن المحلي”
لم يكن المجتمع، في شمال شرقي سوريا، راضيًا عن عمل “الإدارة الذاتية” خلال الأعوام السابقة، ويستمر عدم الرضا هذا مع تزايد ابتعاد “الإدارة” عن تحقيق “الأمن المحلي”، وفق ما قاله الباحث السوري في مركز “جسور للدراسات” أنس شواخ في حديث سابق إلى عنب بلدي.
ولم تستطع “الإدارة” عبر أدواتها فرض قوة مركزية فاعلة ومقبولة يقتنع الناس بها، كي لا تتحول أوضاع المنطقة إلى فوضى، في الوقت الذي تعتبر فيه المنطقة الشمالية الشرقية لسوريا هدفًا استراتيجيًا، بسبب ثرواتها الطبيعية وهشاشتها الداخلية الناتجة عن ظروف محددة ذات بُعد تاريخي.
كل تلك العوامل يجب على لجنة إعادة صياغة “الميثاق” أن تأخذها بعين الاعتبار، وفق ما قاله مسؤول في “الإدارة الذاتية” (تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية).
وأضاف المسؤول في حديث إلى عنب بلدي أن “الإدارة الذاتية” ترجو من “الميثاق” الجديد أن يخفف الهوّة بينها وبين النخب السياسية والاجتماعية الموجودة في شمال شرقي سوريا، خصوصًا في مناطق العشائر العربية.
وسيعطي “العقد الاجتماعي” الجديد صبغة وطنية لـ”الإدارة الذاتية”، وفق ما يعتقده المسؤول، ليمنع استمرار تهم الانفصالية والعنصرية، التي تُتهم بها “الإدارة” من عدة أطراف سورية سواء من المعارضة أو النظام السوري.
وأقر المسؤول بتغليب أفكار وآراء حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (سوريا)” في كثير من الأمور الإدارية والسياسية وحتى العسكرية في شمال شرقي سوريا، “لكن علينا ألا ننسى أن هذا الحزب هو المؤسس لـ(الإدارة الذاتية)”، وفق المسؤول في “الإدارة”.
تجربة “الإدارة” تهدد النظام المركزي لسوريا
في حزيران الماضي، قال الرئيس المشترك لـ”المجلس العام في الإدارة الذاتية”، فريد عطي، إن “العقد الاجتماعي” الجديد سيحدد هيكلية “الإدارة الذاتية” وشكلها وصلاحيات المؤسسات التابعة لها.
وأضاف عطي أن التصديق على “العقد الاجتماعي” الجديد، سيكون إما عن طريق المجلس العام في “الإدارة الذاتية”، وإما باستفتاء شعبي يشارك فيه السكان بشمال شرقي سوريا.
إلا أن نجاح “الإدارة الذاتية” في صياغة “عقد اجتماعي” جديد مناسب للسوريين في مناطقها، قد يسهم في تهديد رؤية الحكم المركزي التي تحكم سوريا منذ عقود، وفق ما يراه حقوقي مقيم في الرقة (تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية).
واعتبر الحقوقي أنه في الفترة المقبلة، ستحاول “الإدارة الذاتية” الوفاء بوعودها، وتحسين الوضع الاجتماعي العام، وصياغة قوانين عصرية ضمن مناطق نفوذها، والكفّ عن نقل عدة قوانين من حكومة النظام.
ونتج “العقد الاجتماعي” عن تراكم مجموعة من الفعاليات التي حرص حزب “الاتحاد الديمقراطي (سوريا)” على البناء عليها، ليبدو هذا العقد كـ”مخرج موضوعي” للتفاعلات التي شهدتها بنية “الإدارة الذاتية”، وتكمن وراء هذه الخطوة مجموعة من المؤشرات السياسية، التي يرمي الحزب من خلفها إلى تحقيق مكاسب على الصعيد المحلي والخارجي، تشرعن ما يسمى بـ”حكومة الأمر الواقع” من جهة، وتهندس تموضعًا سياسيًا جديدًا، وفق ما يراه الباحث بدر ملا رشيد، خلال بحثه المنشور في مركز “عمران للدراسات” عام 2016.
إذ تحاول “الإدارة الذاتية” التعامل مع العقد الاجتماعي كسلطة شرعية قائمة، كون أن هذا العقد يعد دستورًا لدى “الإدارة”.
ولكن تلك الشرعية لا تزال محط أخذ ورد سواء محليًا، أو حتى إن كانت “الإدارة الذاتية” تحاول أن تتعامل إقليميًا أو دوليًا وفق مفهوم “حكومة الأمر الواقع”، وذلك كون مفهوم “حكومة الأمر الواقع” يحوم حوله الغموض بموجب القانون الدولي، فمع غياب نص صريح وواضح لسلطات “الأمر الواقع”، التي تتشكّل نتيجة نزاعات مسلحة داخلية أو ثورات، تتعامل الدول ذات السيادة مع هذه السلطات بإجراءات ازدواجية.
ومن الممكن أن تقوم دولة ما بالإبقاء على جزء من علاقتها مع الحكومة المركزية لدولة، وتقوم بذات الوقت بالتعامل مع إدارة نشأت في منطقة معيّنة ضمن هذه الدولة المركزية.
وتهدف “حكومات الأمر الواقع” إلى إسقاط الحكومات المركزية، وتحمّل أعبائها الاقتصادية باستقلالية عن حكومة النظام، وتقوم بإزالة الوجود الأمني والعسكري للنظام في مناطقها.
كما يواجه “العقد الاجتماعي” أسئلة وتحديات المشروعية، سواء تلك المتعلقة بمستوى التمثيل السياسي لأهم الفعاليات والمكونات في مناطق الشمال السوري، أو تلك المرتبطة بغياب القبول الشعبي، بالإضافة إلى عدم قبول حكومة النظام في دمشق أو أي حكومة أخرى لهذا العقد، إذ إنه مفروض من طرف واحد ودون تنسيق وحوار مع بقية أطراف النزاع.
ولم يتطرق العقد، وفق البحث الذي حمل اسم “قراءة في العقد الاجتماعي لفيدرالية الشمال”، إلى حدود فيدرالية شمال شرقي سوريا، إذ ورد في ديباجته أنها (فيدرالية الشمال) “مؤسسة على مفهوم جغرافي ولا مركزية سياسية وإدارية ضمن سوريا الموحدة”، الأمر الذي يجعل من آلية تنفيذ اعتماد المفهوم الجغرافي والإداري في تشكيل إقليم “الإدارة الذاتية”، آلية صعبة للتوظيف والتفسير المتعدد الأوجه.
تحاول “الإدارة الذاتية” من تعديل عقدها الاجتماعي ضمان فرض سيطرتها على الظروف القائمة حاليًا في شمال شرقي سوريا، وتحسين المعطيات السياسية والأمنية والخدمية والاقتصادية في المنطقة، لكنها تخطو هذه الخطوة دون إشراك شرائح مجتمعية سورية، من ضمنها العشائر العربية، ما قد يعزز الأسباب المهيئة لرفض مشروعها.