السويداء إلى أين ؟ / تيار مواطنة
مع انطلاقة الربيع العربي صدحت حناجر مئات آلاف المنتفضين في ساحات سورية كثيرة ”الشعب السوري واحد، واحد واحد واحد“ رغبةً في الحفاظ على وحدة الوطن ودرءاً للانقسام العمودي ودفعاً ربما للأقليات – سيما أهل الساحل- إلى المشاركة بالحراك وبالتالي الثورة على الاستبداد الاسدي. ولكن ما جنيناه اليوم على البيدر لم يكن لينطبق مع نثر بالحقل.
سنكتفي بتسليط الضوء على ما حصل ويحصل في حوران الجبل، خلال عقد من الثورة والحرب والخيبات – دون إغفال أهمية ما شكلته محافظة السويداء من دور تاريخي في قيام سوريا السياسية، سيما في مرحلة التأسيس وخلال مقارعة الانتداب الفرنسي- حيث نتابع اليوم أحداث مؤسفة في محافظة السويداء حيث جرى اشتباك لمشاريع مليشيات قد تسلحت بدعم من السلطة وحليفها الإيراني، وأخرى من مصادر أهلية، وثالثة من مصادر خارجية -لم يكشف عنها بعد- كما انتشرت عصابات الخطف والتعفيش والانتهاكات المختلفة في وضع أمني منفلت لا أمن فيه ولا أمان.
استبشر الكثيرون خيراً عندما انطلقت حركة رجال الكرامة – مشايخ الكرامة سابقاً- بخطاب قائدها الشهيد “أبو فهد وحيد” لما حمله من رسائل وطنية دعت إلى السلم الوطني ومواجهة الفساد والتطرف بآن، بالرغم من وضوح إعلانه أنه ”لا موالي ولا معارض“ لكنه عبّر حقاً حينها عن صوت أهلي مطلوب موضوعياً في جبل حوران، لدعم الحالة السورية ومن يناصر حركة التغيير فيها، وفي قطعِ جلي مع خطاب الفصائل الإسلامية، رغم تشابه المنشأ مع تلك الفصائل -إذ اعتمد الشيخ “أبو فهد” كلياً في البداية على المشايخ والشباب المتدين بدين التوحيد الدرزي- إلا أنه تطور وضم آخرين محولاً حركة المشايخ الى حركة رجال الكرامة وراح يحمل هماً سورياً أفصح عن موقف وطني يجمع السوريين على تنوعهم وبدا مستقلا يرفض التعامل مع الخارج (الأردن، إسرائيل) ويتبرأ من تنفيذ أجنداته. حتى أن البعض توقع لهذا الرجل الظاهرة أن يحمل إرث الرمز “سلطان الأطرش” في توحيد الصف وتبني القضية الوطنية السورية باقتدار، لكن النظام عاجله بالاغتيال لوئد التجربة، والهم من هذا أن الظرف الموضوعي الحالي مختلف نوعياً عما كان في عهد سلطان، حيث الكتلة الوطنية في دمشق التي انفتح عليها في عشرينيات القرن الفائت، ودعمت الكتلة بدورها فرسان جبل حوران الأشداء في مقارعة المحتل الفرنسي كما بلغ تضامن السوريين -على اختلاف مكوناتهم- حداً افتقدناه اليوم، لأسباب عديدة ليس أقلها تأثير نصف قرن من سلطة الاستبداد الأسدي وتحالفها بالتالي مع ملالي طهران مما شجّع زيادة حدة الاستقطاب الديني والمذهبي في المنطقة وخصوصاً بعدما وطأ آية الله الخميني أرض مطار طهران في ١٩٧٩، وكذلك تصاعد الاستقطاب الديني العدائي بعد قيام إسرائيل وانتصاراتها المتلاحقة على العرب وفشل المشاريع القومية الصاعدة في مواجهتها، ولاحقاً ظهور مايسمى المقاومة الاسلامية من جنوب لبنان/حزب الله الى قطاع غزة/حماس ونمو اليمين في حكومات اسرائيل بالتالي، فضلاً عن نمو الشبكات الاسلامية عالمياً بعد ضخ أموال النفط لدعمها في جهات الأرض الأربع كتعويض عن هزيمة العرب والمسلمين وغياب مشروع النهضة لدى حكامهم والشعوب.
بالعودة إلى السويداء -في ظروف الاستقطابات الدينية والمذهبية المحيطة- وما ظهر مؤخراً فيها والمقصود مليشيا ”مكافحة الإرهاب“ التابعة لحزب ”اللواء” الجديد الذي أطلق أدبياته التاسيسية بظاهرها الوطني السوري وحقيقتها التي لا تتوافق مع حوامل الحزب وأدواته الطائفية، ترافق ذلك مع غياب الشفافية فمازالت إشكالية مصادر دعم هذه البنية محط تساؤل وتشكل لغزاً مريباً، إلا أن هذه المليشيا جاءت استجابة لعوز وحاجات واقعية بالجبل، حيث غاب الأمن وانتشرت عصابات الخطف، وحيث استقالت وتقاعست الجهات الأمنية عن القيام بدورها الا في كم افواه المعارضة -بمنهجية اعتمدتها سلطة دمشق- تاركة الأهالي والمدنيين يرزخون تحت واقع التسيب الامني فيوق التدهور المعيشي والخدمات، كما كشفت كثير من الوقائع تورط الأجهزة الأمنية في دعم العصابات وتسهيل حركتها، وفي السماح بانتشار السلاح المنفلت والمخدرات في المحافظة التي يصعب قصفها وترويعها بالبراميل، حال خروجها عن الطاعة، دون أن يناقض معزوفة ”حماية الأقليات“ التي يتغنى بها، فكانت سياسة تقسيم المقسم بالسويداء لتسهيل السيطرة عليها بتأجيج الخلافات الداخلية فيها، وترك هذه المحافظة -العاصية نسبياً- متكورة على نفسها، تفني ذاتها بذاتها، دون أي تأثير مستحق لها على مصير الوطن السوري كما عودتنا في سابق عهدها.
يتضح الآن مشهد تنازع السيطرة في السويداء – جبل حوران منقسماً على ثلاثة محاور أولها مليشيا “الدفاع الوطني” وعصابات الأمن العسكري ذات الميول والتمويل الإيراني، وثانيها حركة “رجال الكرامة“ كظاهرة أهلية حدودها الجبل، وثالثها مليشيا ”مكافحة الإرهاب“ الصاعدة حديثاً والتي ارتكبت عدة أخطاء خلال قيامها، والتي من المتوقع أن تجبرها الضغوطات المتلاحقة والحثيثة من قبل شيخ العقل ”حكمت الهجري“ لإحتوائها في خطه المنفرد إلى إتباع الولاء للروسي، وبالتالي قد تشكل نظير “اللواء الثامن” بالسهل، فيكون “سامر الحكيم” في الجبل مثيل “أحمد العودة” في السهل، على اعتبار غياب الإرادة الغربية غياباً ملفتاً في الجنوب لصالح النفوذ الروسي، وكنتيجة ومآل لهذا التنازع سوف يخسر الجميع ويصب القمح في مطحنة السلطة/ الطغمة، إن لم يكن على طريقة الإيراني -المرفوضة إسرائيلياً- فعلى طريقة الروسي -التي لا يعارضها الغرب ولا اسرائيل- هذه المرة.
السويداء التي توقع لها الكثيرون أن تلعب دوراً مؤثراً في تغيير مجرى الحدث السوري، حيث استطاعت ”حركة رجال الكرامة“ -منذ بدايات الحرب- تحييد شبان الجبل نسبياً عن المشاركة في المقتلة السورية وحمت الرافضين للخدمة العسكرية الإلزامية في صفوف جيش النظام، ولكن دون أن يتطور ذلك إلى تواصل مصيري مع محيطها المنتفض بدرعا أو ريف دمشق ومع استمرار القطيعة مع سهل حوران وشباب درعا – وهم الذين أرسلوا رسائل التطمين والتعاون مع الجبل، سيما أثناء تواجد كتيبة سلطان الأطرش في ”الحراك“ بقيادة الشهيد الملازم أول المنشق ”خلدون زين الدين“ في الجيش الحر- إلى أن جاءت أحداث قرية “داما” الجبلية التي أدت إلى اشتباكات بين ”جبهة النصرة“ من السهل و“حركة مشايخ الكرامة“ من الجبل، فساهمت “النصرة” بتأجيج الأحقاد على أسس طائفية وما لبثت أن جاءت بعدها عمليات الخطف المتبادل من قبل عصابات الجبل والسهل، ولحقتها أحداث داعش شرق الجبل وأخيراً مناوشات “القريا” الدامية – التي وإن حصلت بتوريط من مليشيا الدفاع الوطني والرؤوس المنتفخة طائفياً حينها بوجه بصرى الشام و”العودة”- إلا انها أسفرت عن مجزرة من الضحايا سببت ارتفاع حادة مشاعر العداء، ولا ندري إلى أي مدى ستبقى ومتى سيتجاوزها الفريقان الجاران أبناء الوطن الواحد.
واقعياً وبالمدى المنظور سيبقى واقع السويداء ضيقاً ومحلياً للأسف وبلا تاثير على الساحة السورية، طالما تتكور داخلها وعلى نفسها سواءً بالخلافات والاختطافات والإفراجات، وبناء التفاهمات على أسس عشائرية برعاية وجهاء تقليديين ومشايخ عقل لم ينفكوا يوماً عن الاندراج بخدمة أجندات السلطة، على اختلاف ولاءاتهم وخلافاتهم النسبية الظاهرية، و يؤسفنا القول أن لا مؤشرات على نقلة نوعية لدور السويداء في المشهد السوري يالمدى القريب والمتوسط.
تبقى المراهنة -ريثما يتحقق انتقالا سياسياً ما على المستوى الوطني- على وعي نخب حوران في سهلها وجبلها في رأب الصدع ولجم الأصوات الطائفية على الضفتين، والبناء على المشترك الوطني والمصالح المتبادلة، وذلك في حمأة حملات التكفير والتخويف والتخوين التي ستحصد السلطة/الطغمة نتائجها في المزيد من إحكام السيطرة على الجنوب.
إننا في “تيار مواطنة” ندرك صعوبة الظرف الموضوعي العالمي والإقليمي والمحلي، الذي أطلق عنان الخلافات على أسس دينية وإيديولوجية، وتطاول المسألة السورية وتأخر حلها، ولكن لابد من وعي وطني يتجاوز المناطقية والطائفية، الأمر الذي يحمل قوى الثورة أيضاً المسؤولية الكبرى للوقوف في وجه الثورة المضادة والفصائل الإسلامية أو المرتهنة لأجندات غير سورية، بسلوكها وخطابها الإقصائي مما زاد في انقسامات السوريين، وكذلك لابد من استعادة البوصلة السورية في شرق الفرات وغربه، لما يشكله ذلك من ضرورة نصنع بها معاً سوريا الموحدة القادمة وحينها لن تكون السويداء خارج السرب.
المكتب الاعلامي في تيار مواطنة – ١٨ أيلول ٢٠٢١