حوارات وآراء

ريح أيلول: الأمانة ووجع الذاكرة/ جمال الشوفي

في أواخر أيلول عام 2015، وككل أيلول من كل عام، تهب رياح مختلفة، رياح البشرى بالفرح القادم مع المطر في شتاءٍ مقبل. لكن أيلول ذاك كانت رياحه مختلفة، رياح تنبعث منها ريح الموت وفحيح ثعابين عصر الجريمة، وكأنّ “رجوع أيلول وورقه الأصفر”، كما غنّته فيروز أملاً يوماً، كان نذير ألم، بات مزمناً لليوم، وقصة وعد وأمانة تدوم ما دمنا على نبض الحياة.

في أيلول ذاك، وكما كان يفعل غالبية السوريين، التقينا مجموعة ممن كنا قد تعاهدنا على طول المسير، للتغلب على عثراته وصعابه أياً كانت، على منعرجاته.. بصمت الفاعلية والقدرة على الثبات.. وقد توافقنا على اختلاف إمكانياتنا، أفكارنا، تطلعاتنا، أدواتنا، وموازين حضورنا الاجتماعي، على نواة عقد اجتماعي تقبل بشتى حدود الاختلاف فكراً ورأياً، وعلى كل صنوف الحرية وتحرير الطاقات فعلاً، على تأخير الذات الفردية أمام خلاصة الرأي الجماعي تحت عنوان المصلحة العامة. والمصلحة العامة كانت ثورة تحرر ووجدان أمة، وكرامة ناسها وحلمهم في العيش الحر والكريم في وطن، وهذه كانت أمانة الأمس واليوم والغد أيضاً.

أواخر ذاك الشهر واللقاء، كانت روسيا قد أعلنت عن تدخلها العسكري المباشر في سوريا. ومشروع اجتثاث المعاندة الأقلوية الدرزية، من منطقتنا، التي تجهض مقولة الحرب على الإرهاب في سوريا قد نُفذ بتفجير موكب حركة رجال الكرامة، وأتبعه تفجير ثانٍ أمام المستشفى الوطني لينهي كامل قيادات صفها الأول. يومها أخبرت أخوة الدرب أننا انتقلنا من ثورة بأحلامنا السلمية والمدنية، بجذوتها وقدرتها الجبارة على الصمود لأربع سنوات، إلى صراع دولي عنيف بالأدوات المحلية وبرعاية مباشرة وغير مباشرة بآن، من كل الفاعلين في الملف السوري، وكأن طبول حرب عالمية ثالثة تدق على الأبواب. وأضفت: فليختر كل منا قصة نهايته التي يريد وكيف يريد، فلم تعد المسألة السورية مسألة إمكانات ذاتية بل دروب وعرة وقاسية جداً، لا أحد بإمكانه توقع مساراته بدقة.

السوريون ومن يومها عاندتهم كل صنوف التشتت، ويبدو أنّها طفت علينا أيضاً، تشتت ونزعة خلافية في إمكانية روسيا القيصرية تحقيق نصرها العسكري، وإمكانية مجابهتها عسكرياً بنزعة نفسية ترفض الاستسلام والانكسار، لتأتي معركة حلب الكبرى أواخر 2016 لتثبت فعلياً أن السوريين في مواجهة قوة عظمي كروسيا، لا تكفي النزعة الثورية والنفسية تلك على مجابهتها منفردة. وتكر سبحة الجيوبوليتيك الروسي على كامل الرقعة السورية من اتفاقات خفض التصعيد السامة، وتأتي على آخر مواقع المعارضة السورية العسكرية. وليس فقط، بل يدخل شتى صنوف السوريين في خلافات بينية، سواء كانت سياسية أو أيديولوجية، ذاك يؤكد على السلمية ووهم الثورة العسكرية، وكأن السوريين بأي المقلبين لديهم حرية الخيار السلس، وذاك يكفر العلمانيين والديموقراطية، وهؤلاء ينعتون الإسلاميين، وكأن كل فريق منهم يمكنه أن يجتثّ الآخر بسلاسة من تاريخه وموروثه، سواء كان على صواب أو خطأ. ولك يا صاحبي أن تستعرض بين هذا وذاك آلاف المواقف ومئات المؤتمرات وعشرات المنصّات التي تشكلت بعد ذاك الخريف، وكيف أنها لليوم، لا تبني جسور التواصل أو التوافق على الحد الأدنى من إمكانيات العمل وفق محددات الواقع الراهن ومتغيراته، دون أن تصيبك لوثة التخوين أو التكفير من بقية الجهات، أو التعالي والتنصّل من الأخطاء الذاتية.. وكأنّنا نعيش مرحلة ممالك بلا عروش، فطام حرية وفصام سلطوي كما أسميتها في مقال سابق.

وجع الذاكرة يئنّ لا في الخيال والرؤى وحسب، بل في اليوميات، في المتشابهات من التكرارات المتداولة لليوم، وربما مشهد درعا البلد اليوم وجع آخر قد عشناه في أعوام مضت وبألف طريقة أخرى. مع أن متغيرات المسار السوري باتت أكثر اتضاحاً للجميع، والقائمين على لجنة مفاوضات درعا يثبتون فاعلية وتضامناً كبيراً في هذا الخريف المرير، إلا أن تلك النزعات التي لم ولن تقبل لليوم بجدولة الحلول لزمن قادم ما زالت تمارس ذات الطقوس والصلف النفسي وبعثرة التوافق العام، وكأن سوريا ما زالت في أولى مهد ثورتها بقواها الذاتية، بينما درعا البلد اليوم، وربما تُرشّح في قريب الأيام ريف حمص الشمالي، وأطراف السويداء، وجنوب الفرات لذات السيناريو، هي اليوم بين أفكاك متعددة تحاول افتراسها، أو الفوز بحصتها المنفردة منها، سواء كانت روسية أو إيرانية، و/أو غرفاً أمنية واستخباراتية دولية تشارك فيها على تضارب مصالحها، ولكنها جميعاً تتفق على وأد المتبقي من سوريتنا، في تنافس قذر على الممرات والخطوط الدولية بعد أن قاربت الطبخة السورية على الاستواء دولياً.

من نافل القول اليوم: لماذا لم تسمعوا قولي أو قول فلان؟ فمن غير الممكن أن تفرض على أهالي منطقة سورية ما رؤيتك النظرية وهم “أهل مكة وأدرى بشعابها”، وقياساتهم قياسات لحم ودم، وقراراتهم قرارات موت أو حياة، وخيارات تجربتهم أشد وطأة من كل جزافية التنظير والنظريات، لكن يبدو أن ذات اللقاء سيتكرر في كل الجغرافيا السورية أمام ذات الجملة من الخيارات المحدودة جداً، وناصية القول الفصل فيها: كن حراً في خيارك، ربما تنهزم اليوم ولكن لا تنكسر.

بعد ذاك الخريف، بدأنا بالتآكل! صحيح أننا لم نكن قبله قد حررنا سوريا ويومها انكسرنا، لكن كان لدينا القدرة على الفعل ومنع تمرير الأجندات الخارجية التي ندرك ما ستفعله بكل سوريا، وكانت المغالبة في الصبر والصمت والفعل والعقل الجماعي أثمن من الجزافية وافتعال الأحداث التبريرية الفردية، وتمرير نزعاتها النفعية المشبوهة، منذ ذلك اليوم وكما كل السوريين تآكلنا: فثمة من قضى نحبه كسيراً، وبعضنا هاجر أليماً، وقلة منا عاندت مجريات الحدث بمأساته وآلامه. وكما في كل بقاع سوريا، ظهرت بين الجميع نوبات الألم والخذلان، التعنّت الصلف، التبرير الذاتي للأخطاء، وظهرت النزعات الفردية بالخلاص.

إن كل هذا حق البشر في الخيارات المتاحة، وإن كان التعثّر العام سمة المرحلة، وإن كان التغيير المفترض قد تم تأجيله بحكم المصالح الدولية الشائنة والسامة التي تمارس منا وعلينا. لكن الأمانة، الذاكرة، مخزون النور للمستقبل، مصباح الزيت الذي ننضحه من داخلنا، من وجداننا من روحنا، من كلماتنا، من كتاباتنا، من مواقفنا، من يومياتنا، لم تعد ملكنا نحن، بل رصيد وزوادة البقية منا، من أطفالنا ليوم آخر، لعصر مختلف، لزمن تتبدل فيه المعادلات الدولية، وتبصر رحلة السوريين في الحرية والكرامة النور.

هي أمانة مهما اشتد حملها، وقست على نفوسنا، يجب أن تبقى مصانة. والأمانة تقتضي مفردات بسيطة: تعقل وتوافق، حرية الرأي والمصير الفردي أيضاً، وصون الذاكرة من العبث والأنات الفردية ونزوات النفس الأمارة بالسوء، والله غالب في وعلى أمره.

المصدر
موقع ليفانت نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى