حوارات وآراء

منطقة شرقي الفرات: إمكانات كبيرة ومستقبل مجهول/ عبد الباسط سيدا

تقدّم مني رجلٌ خمسيني أثناء الاستراحة، وذلك بعد اجتماع من اجتماعاتنا الكثيرة المكثفة، في مرحلة تأسيس المجلس الوطني السوري صيف عام 2011، ليسلّم عليّ بكل ود، ويعرّفني بنفسه، قائلًا: “أنا من الرَقّة. علينا نحن -أبناء المحافظات الشرقية- أن نشكل كيانًا أو إقليمًا إداريًا لنضمن حقوقنا؛ فمناطقنا هي التي تنتج الثروات والخيرات الأساسية الاستراتيجية للبلاد، ولكن خيرها يذهب كله إلى دمشق وحلب والمدن الأخرى، هذا في حين أن مناطقنا تظل مهمشة، خاضعة للإهمال والسلب والنهب، ناسنا فقراء يعانون كثيرًا في واقعهم الصعب”.

هذا الشعور لا يخص ذاك الرجل وحده، الذي لا أتذكّر اسمه بكل أسف، بل هو شعور عام مبني على واقع الحال.

ما دفعني إلى ذكر هذا الأمر هو ما نراه اليوم من وقائع، وما نسمعه من تصريحات هنا وهناك، وما يمكن أن نستنتجه ونتوقعه، بناء على المعطيات والإمكانات، وما يمكن أن نستشفه من المسارات التي توحي بها تطورات الأحداث على المستويين المحلي والإقليمي.

فعملية توزيع القطاعات، بين الأميركان وحلفائهم من جهة، وروسيا والنظام وتركيا من جهة ثانية، تؤكد وجود توافقٍ ما، بين مختلف هذه الأطراف، حول عدم الاشتباك بصورة مباشرة، وترك مجال حرية الحركة لكل طرف، من أجل تثبيت حدود القطاع الذي هو مكلف به ضمن إطار الخطة العامة، فالاجتماع الذي كان أخيرًا بين رئيس أركان الجيش الأميركي مارك ميلي ونظيره الروسي فاليري غيراسيموف، في أواسط الشهر المنصرم، في برن، والاجتماع الآخر الذي كان في التوقيت عينه، بين مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت أبراين ونظيره الإسرائيلي مثير بن شبات في واشنطن، هذا فضلًا عن الاجتماعات المتواصلة بين الروس والأتراك، إلى جانب العديد من الاجتماعات السرية بين مختلف الأجهزة في أكثر من مكان؛ كل ذلك يؤكد وجود تفاهمات أساسية لمّا تتبلور ملامحها التفصيلية بعد، ولكنها تفاهمات تؤكدها الوقائع الموجودة على الأرض، وهي وقائع تدحض التصريحات الإعلامية التي تصدر، من حين إلى آخر، عن الروس والنظام، حول العمل من أجل بسط سلطة النظام على كامل التراب السوري. وآخر هذه التصريحات كانت تلك التي جاءت في ضوء زيارة بوتين الأخيرة إلى قواته في دمشق.

فعلى الصعيد الواقعي، دخلت تركيا إلى تل أبيض ورأس العين، وهناك دوريات مشتركة روسية تركية، تجوب المناطق الحدودية من وقت إلى آخر في مهمة استعراضية، تستهدف توجيه رسائل متعددة الأغراض. ولكنها لم تغيّر من واقع المنطقة بصورة أساسية التي ما زالت تترقب ما ستكون عليها الأوضاع في المستقبل، سواء المنظور القريب أم البعد المجهول.

مع بداية الهجوم التركي، كانت التوقعات، بناء على التصريحات والاستعدادات التركية، والتغريدات الإرباكية لترامب، تتمحور حول اجتياح تركي عام، يشمل كل المناطق الكردية على امتداد الحدود، ابتداءً من تل أبيض، وصولًا إلى الحدود العراقية شرقًا. ولكن سرعان مع أخذت الأمور منحًى آخر مع التحرك الأميركي نتيجة الضغط الداخلي، والضغوط الدولية. وكان الاتفاق بين نائب الرئيس الأميركي بنس والرئيس التركي أردوغان حول الهدنة، وتحديد مجال تحرك القوات التركية. بعد ذلك كان الاتفاق التركي الروسي. واللافت في الأمر هو التزام جميع الأطراف بالأدوار التي رسمت لها، والتحرك في مساحة ضيقة للغاية، من دون حدوث اصطدامات أو مناوشات؛ بل كان التفاهم حول الكثير من الأمور الإدارية واللوجستية، حتى استخراج النفط وبيعه، مقابل حصص معينة لكل جانب، ومن ضمنهم النظام نفسه.

وعلى الرغم من جهود النظام لاستمالة عشائر المنطقة، خاصة العربية منها؛ وقد تبين ذلك بوضوح في اجتماع علي مملوك مع رجال بعض العشائر، ودعوته لهم إلى تجديد التفاهمات والروابط التي كانت مع النظام. كما تبين ذلك أيضًا خلال زيارة المفتي حسون إلى قامشلي، بمناسبة تقديم التعازي بوفاة عبد الحميد درويش رئيس الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، ودعوته الصريحة للأحزاب الكردية السورية بضرورة وأهمية زيارة دمشق لحل كل المشكلات.

ولكن يبدو أن هناك خطة أميركية مقابلة، تستهدف الاحتفاظ بالمناطق النفطية في محافظتي دير الزور والحسكة، وفي المناطق المتاخمة للعراق التي تشكل امتدادًا طبيعيًا للمناطق العربية السنية والكردية، وتعد عمقًا حيويًا لها. ويبدو أن ذريعة حماية النفط، والاستحواذ عليه قد أصبحت مقبولة لدى ترامب، لاقتناعه بإمكانية تسويقها لدى الناخب الأميركي في الانتخابات الرئاسية المقبلة في العام القادم.

ومن الواضح أن استخدام هذه الذريعة لن يقتصر على الداخل الأميركي وحده، بل سيشمل الداخل السوري نفسه، وستكون لذلك الأمر انعكاساته الإقليمية بطبيعة الحال. فحاليًا تعمل الولايات المتحدة الأميركية على إعطاء دور للعامل العربي في سورية عبر السعودية، والذريعة هي تطوير صناعة استخراج واستثمار النفط من خلال شركة (أرامكو). وطالما أن هناك خبراء سعوديين، وربما مصريين في المنطقة، فهناك حاجة إلى قوات عسكرية تقوم بحمايتهم، ومن يدري، فربما تكون هناك مستقبلًا جهود لتجنيد أبناء المنطقة ضمن إطار تشكيلات عسكرية، تكون بتمويل وقيادة سعودية، خاصة أن القوات الإقليمية والدولية الأخرى لها تجارب في هذا الميدان. وقد تبين حتى الآن أن هذا الأسلوب هو الأكثر نفعًا من ناحية التكاليف، وتحاشي ضغط الرأي العام، سواء الداخلي أم الدولي.

وبالتوافق مع هذه الجهود، هناك جهود أوروبية أميركية، تُبذل للتقريب بين مختلف الأطراف الكردية، ولا سيّما بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي؛ وما يعتقد في هذا المجال هو أن خطوات ملموسة قد اتخذت في هذا الاتجاه. ولكن الثقة حتى الآن ما زالت شبه مفقودة بين الطرفين. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن التوافق الكردي – الكردي أمرٌ مطلوب من جانب المجتمع الكردي السوري، كما أنه يزيل كثيرًا من العواقب أمام ترتيب التفاهم بين العرب والكرد في منطقة الجزيرة.

والسؤال الملح هنا هو: هل تستطيع الولايات المتحدة وفرنسا إقناع حزب الاتحاد الديمقراطي بفك العلاقة مع حزب العمال الكردستاني، والتحول إلى حزب سوري، وذلك بغية الاندماج مع الحالة الكردية السورية، والسورية العامة، خاصة أن الغالبية العظمى من أعضائه ومقاتليه قد باتوا من الكرد والعرب السوريين، هؤلاء الذين تمكن الحزب المعني من تجنيدهم لأسباب مختلفة، لسنا بصدد تناولها هنا، أم أن الأوضاع ستُترك هكذا انتظارًا لحل أشمل، يبدأ بتجديد العملية السلمية لحل القضية الكردية في تركيا، بناء على مباحثات بين الحزب العمال الكردستاني والأطراف الكردية الأخرى من ناحية، والحكومة التركية والأحزاب التركية من ناحية أخرى، بهدف الوصول إلى حل عادل واقعي مقبول، يكون في مصلحة تركيا وكردها، ومصلحة المنطقة بأسرها؟

وبالعودة إلى راهن ومستقبل منطقة شرقي الفرات، نرى أن الأمور مفتوحة على مختلف الاحتمالات. فقد تتمسك الولايات المتحدة بهذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة إليها، في سياق استراتيجيتها الخاصة بضرورة الحفاظ على التوازنات في منطقتنا المضطربة، وفي سورية تحديدًا حيث الوجود الإيراني والتركي، إلى جانب الوجود الروسي، والاستعداد لما ستسفر عنه تطورات الأوضاع في العراق. هل سينجح مشروع الدولة الوطنية العراقية، بمعزل عن التدخل والتحكم الإيرانيين في مفاصل الدولة العراقية، وهو ما يطالب به المتظاهرون العراقيون اليوم في مختلف الساحات العراقية، خاصة في المدن الجنوبية والمقدسة لدى الشيعة العراقيين الذين يعتبرهم النظام الإيراني مجاله الحيوي؟

فما يجري في العراق اليوم يؤكد حصول تحولات نوعية داخل المجتمع العراقي، ضد الهيمنة الإيرانية على الأوضاع العراقية.

من جهة أخرى، ما زالت الأوضاع في سورية متداخلة، ومعقدة؛ ولن تكون هناك إمكانية للحل (وإن سيطر النظام بدعم مباشر من روسيا على منطقة إدلب) من دون توافق دولي – إقليمي، يكون مقدمة لتوافق سوري – سوري على طبيعة الحل القادم. وهذا ما أشار إليه المندوب الدولي المسؤول عن الملف السوري غير بيدرسون، في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن بتاريخ 20-12-2019، حينما رأى أن الأهم من اللجنة الدستورية هو الحل السياسي. ولكن في انتظار الحل المنشود المبهم الملامح حتى الآن، تعمل مختلف الأطراف على تعزيز مواقعها، وترتيب أوراقها.

روسيا تحاول إثبات نجاحاتها الميدانية، سواء عبر النظام أم عبر التوافق مع تركيا على نشر الدوريات والشرطة العسكرية. وتركيا تعزز وجودها في المناطق التي سيطرت عليها حتى الآن، سواء في عفرين أم في إعزاز وجرابلس وتل أبيض ورأس العين.

أما الوجود الإيراني، فيبدو أنه قد بات غير مرغوب فيه من قبل مختلف الأطراف؛ وربما كانت المشكلة الأساسية تتمثل في كيفية ملء الفراغ الذي تتركه القوات الإيرانية وميليشيات “حزب الله” في حالها اضطرارها إلى الخروج من سورية مرغمة من جانب القوى الدولية المتصارعة على سورية. فالوجود الإيراني يتعرض -من حين إلى آخر- لضربات إسرائيلية تحمل طابع الرسائل أكثر من كونها ضربات موجعة، لأنها على العموم لا تُحدث تحولًا نوعيًا في جاهزية تلك القوات وانتشارها.

ولكن ما يشهده كل من لبنان والعراق، وما تشهده إيران نفسها، من تظاهرات واعتصامات، يضعف موقف النظام الإيراني وحلفائه، ويدفع بهم نحو أخذ احتياطاتهم، والتحسّب لمختلف الاحتمالات. خاصة بعد الضربات الأميركية الأخيرة لمواقع “حزب الله” العراقي، بعد تحرشهم بالقوات الأميركية. وتطور الأحداث لاحقًا، حتى وصل الأمر بفصائل “الحشد الشعبي” التابعة لإيران بافتحام السفارة الأميركية في بغداد، وسط عجز وتخبط حكوميين لافتين؛ ومن ثم إقدام الأميركان على قتل قاسم سليماني، وعدد من القادة العسكريين الإيرانيين وقادة الميليشيات العراقية التابعة لإيران، وتبني ذلك علنًا. كل ذلك يبين أن المنطقة قد دخلت مرحلة جديدة، وأصبحت أمام منعطف خطير مفتوح على كل الاحتمالات.

من جهة أخرى، يتحسب نظام بشار الأسد نفسه، على الرغم من تبجحه بالنصر، لما سيكون عليه الموقف الأميركي النهائي فيما بعد، خاصة في أجواء اعتماد قانون قيصر.

مختصر القول: ما يجري في شرقي الفرات لا يمكن فصله عما يجري في سورية والمنطقة برمتها. مختلف الأطراف تعزز مواقعها، وترتب أوراقها، وتنتظر الموقف الأميركي النهائي الذي يبقى، على الرغم من كل مظاهر الزهد التي يظهرها، هو الفاعل المؤثر الذي يحسب له الجميع، حتى الروس، ألف حساب.

المصدر
موقع جيرون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى