الوطن

مواكب الهجرة السورية / جمال الشوفي

ربما لم تعد مفاجئة أرقام السفر المتزايدة في الآونة الأخيرة، ولم تعد تثير الدهشة مشاهد الاكتظاظ وطوابير الحشود أمام مراكز الهجرة والجوازات في المدن السورية شتّى. وربما هذا هو المطروح على جداول السياسة الشائنة الشاغلة في بلادنا منذ عقد لليوم. ويبدو أنّ مؤامرة كونية فعلية قد أحيكت وسبكت جيداً على سوريا. عجباً! فالله أعلم بما تخفيه الغرف السوداء عنا.

تشير تقارير عدة صادرة عن مراكز الهجرة والجوازات في الداخل السوري، أو ما بقي منها، لأرقام متزايدة وهائلة وصلت لما يزيد عن خمس وسبعين ألفاً خلال أسبوعين غادروا سوريا، منهم اثنان وعشرون ألفاً من دمشق، وأقل بقليل منهم من حلب، ونصف ذلك من السويداء، وتوزّعت البقية بين دمشق ودرعا والقنيطرة وحمص واللاذقية وطرطوس، بينما كان التوجه المرصود بنسبته الأكبر لمصر والتي بلغت 45%، وتلتها أربيل بـ15%، بينما توزع البقية بين بغداد وسلطنة عُمان وبيلاروسيا وروسيا وكوبا بنسبة 5% تقريباً لكل منها، والبقية لدول مختلفة. وقبل هذا ومنذ عام تقريباً، لوحظ أيضاً إقبال على السفر لدول أفريقيا طلباً للعمل، الدول المصنّفة في آخر السلم العالمي للنمو، سواء أطباء أو مهندسين أو تقنيين، كموزمبيق أو الكونغو أو حتى الصومال الخارجة من حرب قبائل طويلة.

تعزى أسباب عدة للهجرة والسفر في الوضع الحالي، فإن كان أبرزها الوضع المعاشي الخانق الذي تعيشه الناس بسوريا وتهالك الاقتصاد المحلي وانعدام قيمة الليرة السورية التداولية، لكنه لم يعد كافياً كسبب. فقد زادت حدّة البلاءات على السوريين، خاصة مع افتقاد كل أسس البنية التحتية من كهرباء ووقود لمجمل مقوماتها، ولكن السبب الأهم والأكثر مدعاة للعلاج والتبين من حقيقته، هو أن لا تغيير ممكن أن يحدث قريباً في البنية السياسية السورية والتي قد تنعكس على الوضع المعاشي والاقتصادي للبلد، خاصة بعد تثبيت الانتخابات الرئاسية الأخيرة صيف هذا العام، والتي طرحت على المواطن السوري، الذي ما زال مقيماً في الداخل، معادلة إما أن ترضى بسياسات الأمر الواقع، من نهب واستئثار وتسلّط وغطرسة، وتقنين تمويني وكهربائي وطاقي يوزع بالقطارة وعلى بطاقة عبقرية، أو فارحل، فكل الدروب مفتوحة أمامك وإليك في السوريين قبلك ممن ركبوا القوارب المطاطية تجربة بالهجرة مثالاً كونهم لم يرضوا بسياساتنا.

طوال السنوات العشر الماضية فرضت على السوريين ثلاثة أنماط من الهجرات:

النمط الأول: التهجير القسري، والذي تمثّل بتفريع المدن السورية مدينة تلو الأخرى. فبعد التدخل العسكري الروسي المباشر بسوريا نهاية عام 2015، وعلى إثر دراسة نشرها مركز راند الأمريكي للدراسات، التي تفيد بتقسيم سوريا لمناطق نفوذ متعددة، بحيث يكون كامل الداخل السوري تحت سيطرة النظام وبوصاية روسيّة كحلّ سلام لسوريا حسب زعم الخطة، بينما تستثنى منطقة شرق الفرات لتبقى تحت سيطرة قسد وبوصاية أمريكية، بينما إدلب ودرعا تحت سيطرة قوات المعارضة السورية وبوصاية تركية وأردنية. بعدها بدأت ملامح تغير ديموغرافي واسع في الداخل السوري، فعلى إثر العمليات العسكرية الروسية الجوية والميليشيات الطائفية الإيرانية بدأ تفريغ مدن الغوطتين الشرقية والغربية، وبينهما أحياء حلب الشرقية، وقبلهما بعض أحياء حمص لتأتي على كامل أحياء حمص التي شكلت حاضنة للثورة، وتابعت العمليات جزئياً في درعا في خرق شبه جزئي لخطة راند منتصف عام 2018، والتوجه العام كان إما التهجير لإدلب ومحيطها، أو فرض شروط المصالحات الإجبارية المهينة، والذي قادته روسيا مباشرة من غرفة عمليات حميميم زادت عن 1000 منها حتى ذلك التاريخ.

النمط الثاني: هو التهجير التبادلي، والذي تجلّى بوضوح باتفاق التبادل المعروف باسم اتفاق المدن الأربعة عام 2017، والذي جرى التفاوض فيه بين طهران وجبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً) برعاية قطرية، والذي يفيد بتهجير عكسي لموالين أو معارضين بين هذه المدن، فهجر سكان مضايا والزبداني الرافضين للمصالحات للشمال السوري، مقابل تهجير سكان كفريا والفوعا لهذه المناطق، وقد تم التنفيذ الكامل لها عام 2018. من المفيد الإشارة أن خطة راند ذاتها كانت قد أشارت وقتها لإمكانية التبادل السكاني بهذه الطريقة لمنع خطوط التماس العسكري كطريق لإحلال السلام في سوريا، حسب زعمها.

والنمط الثالث اليوم فهو الطوعي، والمقصود بالطوعي هو أن يمتلك السوري حق الخيار الديموقراطي بكامل إرادته طوعياً للهجرة من سوريا. يا لها من ديار للديموقراطية والسلام وحرية الخيار! وقد يكون المبكي مضحكاً أحياناً. فالمضحك حتى الفقاعة أنّ السوريين لا يمتلكون أدنى درجات الخيار حتى نصفه بالطوعي، والمبكي أنه لم تعد هذه البلاد قابلة للسكن، بكل تجلياتها المادية والسياسية والأخلاقية والعلمية. فما يزيد عن 85% من سكانها المتبقين فيها دون مستوى خط الفقر، حسب التصنيف العالمي نهاية 2020. وجامعاتها بعمومها الحكومية منها والخاصة خارج التصنيف العالمي، لا بل في ذيل القائمة العالمية. وأكثر الدول انتهاكاً لحقوق الإنسان وحريات الرأي، وأكثر الدول فساداً على سلم الشفافية العالمية. والأكثر مدعاة للألم، أنّ النسبة الغالبة للمهاجرين الطوعيين اليوم هي من الشباب، لتصبح هذه البلاد بلاد للعجزة عموماً، تتزايد فيها العنوسة، وتتضاعف فيها أرقام نسب النساء بنسبة خمسة مقابل رجل.

فهل هذه مؤامرة كونية؟ لا عجب فحتى المريخ تآمر على سوريا ولم يرسل بعد نيزكه المدمر لها كلية. لا عجب فسياسة حكم الهياكل والجماجم هي سياسة القوة الجوفاء من الحكمة والعقل والانتماء، هي سياسة هذه البلاد المسماة قلب العروبة النابض. لا عجب أن تكون كل سياسات العالم تعمل ضدنا ما دام القائمون على شؤونها والمتصرفون والمتنفذون في عوالم سياستها ليسوا سوى رعاة لمصالحهم ومصالح أسيادهم من دول العالم الكبرى، ولا تحكمهم سوى شهواتهم غير المنتهية بالسلطة حتى ولو كانت على خراب البلد بشراً وحجراً.

في العام 2014، حادثني شخص يدّعي رفضه للماسونية، أنّ مخطط تفريغ سوريا يقوم على الهجرات الثلاث أعلاه، ويومها استنكرت ذلك الكلام، وجادلته أنه متأثر بالفكر الماسوني الذي يدّعي رفضه، لكنه أشار لقراءته في ذلك المجال ولأرقام تسرّب له. واليوم أكاد أجزم أنه من رعاة الماسونية طوعاً أو جهلاً، وأكاد أجزم أنّ مؤامرة كبرى أحيكت على السوريين، ولكن ليس لتغير النظام بل لتغيير بنيتهم السكانية ديموغرافياً وتفريغها من أهلها وتاريخها وسكانها، وليس هذا فقط، بل لبتر وقطع ثورات الربيع العربي ومبتغاها في الدولة الوطنية في قمة أوجها في سوريا، وأكاد أجزم أيضاً أنه لم يكن للسوريين من صديق سوى قوارب الموت والهجرة.. فهل هكذا تكون حلول السلام؟

المصدر
موقع ليفانت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى