بين العلمانية والدين جسور مصطنعة / إيهاب نبيل
هل وُجدت ما تسمى بالعلمانية المتدينة؟
للأجابة عن هذا التساؤل حول ضرورة مد جسور بين العلمانية والدين، أو وجود ما يسمى بعلمانية متدينة في الواقع العربي الذي يختلف تمام الاختلاف عن نظيره الأوروبي على مستوى التشكيلات الاجتماعية، وعلاقات الإنتاج والأفكار الدينية، وحضور التراث الإسلامي، والرغبة في اجتراره بكل تفاصيله إلى حاضر تجاوز كل تلك المعطيات التاريخية التي شكلت ذلك التراث، أُصيب العلمانيون بأزمة عقلية رهيبة خصوصاً بعد تزايد الفكر الأصولي وسيطرته على مناحي الحياة الاجتماعي، ووصوله إلى السلطة السياسية في أحيانٍ كثيرة في بلدان عربية كبيرة متعددة مثل مصر وتونس والجزائر والسودان. تلك الأزمة التي شكّلت وعياً سطحياً ومزيفاً، إما خوفاً من مواجهة الظلامية الدينية والانبطاح أمامها، أو طمعاً في الدولار والتمويلات من الدول التي ترعى الأصولية منذ سنين طويلة على رأسها النظام السعودي، لا لشيء إلا لمواجهة الثورات والانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة الاستبدادية القمعية التي رفعت الشعارات اليسارية الاشتراكية كثيراً في وجوه تلك الأنظمة، فكان لزاماً عليها الرد بمواجهتها بالدين، وأشكال التدين، والإمعان في ثقافة الهيمنة -على حد تعبير غرامشي- الدينية وتجييش أجهزة الدولة الأيديولوجية لتلك المهمة.
تلك المعطيات انعكست على عقول كثير من العلمانيين العرب الذين مالوا إلى مهادنة الأصولية عبر منظومة فكرية، مفادها التلفيق -لا التوفيق- بين العلمانية بما لها من توجّه عقلي صرف، والميتافيزيقيا الدينية، وإصباغ الديني بالعلماني، وترسيخ مفهوم العلمانية المتدينة الحافظة للدين، ولا تريد إبعاده عن حياة البشر، بما أنه دستور حياة كما يعتقد المؤمنون به، ولنذكر أمثلة حتى لا يكون الكلام على عواهنه بلا فائدة.
فقد خرجت علينا ثلة من المفكرين والكتاب والباحثين والمؤرخين، يدّعون أنهم علمانيون في حقل التراث الإسلامي بتخريجة كبرى تقول إن الرسول محمد حينما هاجر من مكة إلى المدينة، إنما هاجر ليعالج نفسية المهاجرين ولإيجاد حل للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية لما بعد الهجرة، إذ أسس في يثرب دولة علمانية حديثة سبقت إعلان حقوق الإنسان وقوانين ودساتير العصر الحديث والمعاصر! ويزيدون في الهزل بأنه أرسى مبادئ التعايش السلمي والمواطنة!
أية دولة علمانية هذه التي يقودها نبي أمّي لا يستطيع أن يتفوه بكلمة أو يصدر رأياً شخصياً أو قراراً عاماً إلا بوحي من السماء؟ وأية مبادئ مواطنة في مجتمع تسوده أعراف القبلية والبداوة في شبه الجزيرة العربية؟ وأي مبدأ تعايش سلمي في ظل ما اصطُلح عليه تاريخياً بالغزوات التي شهدت فداحة في القتل والسبي والاسترقاق، تلك الفداحة التي لم تتزايد إلا بعد الهجرة من مكة إلى المدينة، وبالطبع حوادث يهود بني قريظة وبني النضير الشهيرة شاهدة على تلك المواطنة الوهمية وعلى ذلك التعايش السلمي الخيالي.
مثال آخر وهو أن بعض العلمانيين الألمعيين قاموا بالتنظير السياسي حينما أكدوا حدوث أزمة دستورية عقب وفاة النبي، بسبب خلوّ منصب الخلافة والفتنة التي من الممكن أن تحدث بسبب عدم وجود من يخلف الرسول في حكم الدولة الإسلامية الناشئة؟
أزمة دستورية في مجتمع قبليّ تسوده أعراف القوة والتجييش والإغارة! وكأن الرسول قد تم اختياره رسولاً بشكل دستوري خاضع لإجراءات الاقتراع والانتخاب من مجلس نواب وسلطة تشريعية في مكة والمدينة، وبناءً عليه حدثت أزمة دستورية متعلقة بحكومة الملأ المكي التي ترأستها قريش.
حقيقةً، نحن أمام عبث حقيقي لا صلة له بعلم التاريخ أو الاجتماع السياسي أو السياسة، ولا بالعلمانية مطلقاً، بل أعدّه تآمراً معرفياً، فنحن أمام حفنة من الانتهازيين التلفيقيين الذين رأوا في مسألة التلفيق مخرجاً إزاء القضية الأزلية، الأصالة أو المعاصرة؟ فساروا على نهج ما يسمَون بالوسطيين، وهم في الحقيقة انتهازيون. فالوسطية في تلك القضية انتهازية قحّة، فالتراث بمخزونه النفسي والمعرفي لا شك في أنه تاريخ كبير، وتراكم إبستمولوجي ضخم، ناتج عن عمليات تشكّلٍ وتطور معقدة وعلاقات إنتاج مختلفة مرت بها المجتمعات الإسلامية، مما يتيح لنا نقده وإعادة فحصه وتمحيصه، لكن ليس لندخله ونستحضره إلى واقعنا المعيش باعتباره بوصلة الصالحين، ونبراس الأوّلين الذين حملوه إلى كل البشرية في كل الأزمنة.
إسقاط مصطلحات الحداثة وما بعدها مثل الدستورية والمواطنة على ماضٍ له معطياته وظروفه التاريخية القروسطية، ليس له علاقة بالعقلانية في شيء، ولا هو مد أواصر الصداقة بين العلم والدين أبداً، بل هو ربط بين الواقعي والخيالي، وربط بين المعقول واللامعقول، وإعطاء فرصة لرجال الدين لمزيد من التبرير لعنف السلطوية تجاه الشعوب، وتبرير النهب الممنهج وغير الممنهج لثرواتها، وتوجيه دعوة إلى رجال الدين لكي يدخلوا غرف نومنا ويحددوا لنا كيفية النوم والمضاجعة، وتحديد أنواع وأشكال الثياب، واستحضار لماضوية مقيتة دموية طبقية عنيفة تدير آلة العنف المعنوي والجسدي تجاه المجتمع؛ ليصبح الإله موجوداً على الأرض وليس في السماء، وتحويل المجتمع إلى حسبة، ومن ثم إغراقه في الرجعية والتخلف والتصلب العقلي؛ ليصبح المجتمع الرجعي هو الإله كما وصفه دركهايم.
———–
هذا المقال هو الجزء الثاني من مقال بالعنوان ذاته كما يشير المصدر غلى الرابط أدناه