حوارات وآراء

الحرية والديمقراطية والعصر الأمريكي! / جمال الشوفي

لم يَعُد العالم اليوم يقوم على البِنى المتماسكة والمتحالفة أيديولوجياً. لقد انتهى عصر الأيديولوجيات الكبرى والشمولية بشكل متتالٍ زمنياً، بدءاً بانتهاء النازية العنصرية القومية وتحالفها المفرط بالهيمنة والسطوة العالمية مع الفاشية والإمبراطورية اليابانية عقب الحرب العالمية الثانية، ليليها انهيار الأيديولوجية الشمولية الشيوعية، ومركزها الاتحاد السوفيتي السابق عام 1989، بعد حرب باردة طويلة دامت أربعة عقود. بينما بقيت الديمقراطية موضع شك سياسي ونقد فكري عالمي لِلَّحظة.

اليوم هل يمكن الحديث عن أن الديمقراطية أيديولوجيا، أو حسب تعبير “فوكوياما” بأنها “الأيدولوجيا الأنفع والأصلح للبشرية”، وذلك في معرض تقديمه وتنظيره لعصر العولمة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، في كتابه “نهاية التاريخ” عام 1993؟ واليوم باتت كباقي الأيديولوجيات قابلةً للزوال كما سابقتها؟

النظر للديمقراطية بشكل مجتزئ عن الدولة الحديثة أو الدولة العصرية ينتابه خلل فكري من جهة، واستعجال في الرؤية السياسية. فالدولة العصرية هي الدولة الليبرالية، دولة الحريات والحقوق أولاً وقبل كل شيء دولة التعاقد الاجتماعي طوعياً وحريةً، قبل الديمقراطية وممارساتها السياسية. ففي أصل الدولة العصرية، الحقوق والحريات متلازمة ومتسايرة في سياق تشكُّلها كقاعدة وبِنية وهُوِيَّة معاً، تشكل خُلاصات ومحددات أوليَّة ثلاثة:

حق الفرد في التعبير وإبداء الرأي والتي تربط عضوياً حرية التعبير بالحق في ممارسته ومَصُونيَّته قانونياً ودستورياً، منتج الفعل الصحافي والإعلامي وفعل الكتابة والقول العامّ بعيداً عن مِقَصّ الرقابة المغرِضة، ومحميّ من عسف السلطات القابضة على أرواح المختلفين معها حتى بالفكرة.

وحق ممارسة الشعائر الدينية في أماكن عبادتها، والذي أجاز حرية الاعتناق الديني دون سَطْوةِ مِلَّةٍ على أخرى وليس فقط، بل فتح بوابة العمل السياسي والمدني بعيداً عن هيمنة الدين المركزية على شؤون حياة البشر، ما نجيزه اليوم بمصطلح العَلمانية وفصل الدِّين عن الدولة والسياسة. وحق الفرد الشخصي في شؤونه وحياته وأهوائه ورغباته ونموذج انتمائه الذي يختار، أهلياً أو مدنياً أو سياسياً، مترافقة مع المسؤولية القانونية بعدم الاعتداء أو التقليل من حق الآخرين في ذلك. الحق التبادُلي هذا أتاح المساحة الواسعة لمزيد من الانفتاح والتحرر والخروج عن قيود العادات والتقاليد الآسِرة للحرية والإمكانية الفردية.

الحقوق الثلاثة هذه هي حريات أيضاً، هي مفاعيل استحداث في بِنية الدولة، حققت استقرار المجتمعات الأوروبية والغربية وفتحت بوابة تحرّر إمكاناتها الفردية والمجتمعية، وحرية التنافس الاقتصادي والمادي وتنامي مفاعيل حركته الاجتماعية والمالية والفكرية والسياسة فبات يسمى عالماً متقدماً. والحقوق الثلاثة أيضاً أتاحت وبشكل عريض ممارسة السياسة بحرية ومثلها المدنية أيضاً وتشكيل المنظمات المدنية المستقلة عن الدولة ومؤسساتها، والتي يصونها القانون ويحمي ممارستها من سطوة السلطة، ويكبح جماح تفرُّدها في شؤون البشر وحياتهم.

لتأتي الديمقراطية وَفْق ذلك تجسيداً وانبساطاً يومياً متمثلاً بممارسة هذه الحقوق سياسياً ومدنياً على أساس وأرضية الحقوق العامة هذه.

فالديمقراطية نتاج عملية متكاملة الأبعاد في تشكيل صيرورة الدولة وبِنْيتها قانونياً ودستورياً، أي تعاقدياً، والتعاقد اتفاق وتوافُق وتراضٍ.

الديمقراطية تنامت في حلقات متسعة لتعبر عن الحقوق المتنامية والمتزايدة مع تطوُّر الحياة، فحقّ التصويت والانتخاب والاقتراع العامّ، ثم حقّ النساء في ذلك أيضاً، وحق الأطفال في الرعاية والتعليم والحياة، لدرجة الوصول لتشريعات تجيز حق المثليين أيضاً. الديمقراطية ليست نموذجاً أو “يوتوبيا” نهائية، فالحرية والحق أولاً، لتصبح الديمقراطية منتجاً متطوراً يواكب هذه الحقوق والحريات واتساع دوائرها.

اليوم ثَمَّةَ جدل واسع حول الديمقراطية، وخلفية الجدل فكرياً في قدرة الأنظمة السياسية المحافِظة على هذه الحريات والحقوق؟ فحيث لا يمكن إجراء مُقارَنة بين ما نعيش فيه نحن في دول القَعْر البرميلي القَذِر للفكر والسياسة، وبين ما تحقق في عوالم أخرى مختلفة، ونقاشنا لتلك الحريات والحقوق هو لبسط مفاهيمها وتفريق اختلاطها. وهنا غرض الرأي بإلقاء الضوء على الكيفية التي نقارن بها ما هو قائم عالمياً وأثره علينا.

أوراق ودراسات وأفكار كثيرة تعالج انحدار الديمقراطية لما دون مستوى الحقوق والحريات، فرغم تمتُّع الفرد الغربي في حقوقه السياسية والفكرية والتعبيرية، لكن ثمة انحياز تجاه هيمنة الفكر المادي وقدراته الكبرى في التأثير في نتائج الانتخابات في ذات الدول، وأيضاً على السياسات العالمية وتوجُّهها اليوم.

أعمال كُثر تحدثت عن الاستلاب العصري رقمياً وتقنياً لدرجة العبودية أو عودة نموذج العلاقات الإقطاعية الاستحواذية سياسياً في قالب عصري محدَّث تقوده العولمة وعلى رأسها

أمريكا، أساسه الاستحواذ المالي من خلال السلطة والتي تحققها الديمقراطية ذاتها! وهذا مناقض بفجاجة لما كانت عليه الديمقراطية كمنتج عصري لدولة الحريات والحقوق الليبرالية.الحديث في النيوليبرالية وما بعد الحداثة مهم وضرورة نقدية، لكنه غير كافٍ منفرد، فهي لم تزل قيد تفكير ونقد نظري مهم، لكن ممارسات الديمقراطيات العالمية بعصر العولمة، خاصة التوجه الأمريكي، في فرض هيمنة عالمية مفردة على العالم، مدعومة بالتفوق التقني والعسكري والشرعية الدولية وبوابته مجلس الأمن، تلك التي ادعت نشر الديمقراطية عالمياً بخلاف أدواتها التي أنتجتها في الحق والحرية. أمريكا لا تحمي الديمقراطية، بل تقوِّضها من جذرها، ولا تحمي وحدة التواصل الكوني في نموذج ثقافي عالمي عامّ، بل تقرض ثقافات الشعوب، وتهدر حرياتها. فمحاربة الإرهاب ودعوى نشر الديمقراطية فرضية هشّة تنهار أمام شواهد أفغانستان والعراق وفلسطين وما يحصل بالشرق الأوسط، وغيرها من دول العالم لتقف شاهداً على خلاف ما رمته الديمقراطية الأمريكية. وليس فقط بل ولدت أيضاً إمكانية عودة التنافس العالمي على مواقع النفوذ العالمية بطريقة الاستحواذ ذاتها التي مارستها أمريكا. فروسيا الجيوبوليتيكية اليوم، نموذج مُشابِه لأدوات الهيمنة الأمريكية مع اختلاف المنبع، وتأجيج لنزعات الهيمنة والتفرد في شؤون العالم. والقاسم المشترك العريض بينهما هو الحفاظ على حرية الانتخاب السياسية في دولهم، والترويج لها في الدول التي تغزوها، وربطها بمفاعيل الاقتصاد الذي تريده هي، وتخلٍّ مطلق عن الحرية والحقوق التي شكلت الديمقراطية. وهذا عيب في الفكر والسياسة والنتائج خير دليل.الديمقراطية اليوم ما لم تعنِ حقوق الإنسان كافة، وحرية الثقافة وحوار ثقافات العالم بمساحة واسعة بعيدة عن الدُّونية أو الاستعلاء، وحق تقرير مصير الشعوب، والاعتراف العمومي بالعلاقات الحميمية والدافئة لعوالم الثقافات القيمية بتعددها ومحتواها المختلف عن الأَمْرَكة أو الرَّوْسَنة والغَرْبَنة… وإلا فهذه الديمقراطية عدو شرس لكل نماذج الحريات التي أسَّستها، ومولدة شرور الكوكب كافة، والديمقراطية والحرية والليبرالية أساساً بَراء منها، فلا أمريكا راعية للديمقراطية، ولن تكون الديمقراطية الاقتراع والانتخابات وحسبُ، فدول الشرق تمارس ذات الانتخابات وتقيم أَعتَى الديكتاتوريات القاتلة والسامة والمُقتلِعة كلَّ نماذج الحياة من جذورها. وأجيز قول هيجل: إنه مكر التاريخ. وأضيف عليه: إنه عسف التقنية، وسموم النفس الأمّارة بالسوء وهَوَى الاستحواذ المُطلَق….فهل هذه الديمقراطية التي نريد؟ وكيف ستكون الاشتراكية الروسية إذاً؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى