مشروع دولة

الاقتصاد الأسود: معالم الاقتصاد الخفي في سورية

تمهيد

يجري الحديث عن الاقتصاد الأسود في أدبيات علم الاقتصاد كواحد من مرادفات اقتصاد الظل أو الاقتصاد الخفي أو الاقتصاد السري أو الاقتصاد غير الرسمي، ويمكن تعريفه بأنه: “الأنشطة الاقتصادية التي يُمارِسها الأفراد والمؤسَّسات ولا يتم إحصاؤُها بشكل رسمي، ولا تُعرف مكوّناتها الفعلية ولا تدخل في حسابات الناتج القومي الإجمالي، وبالتالي لا تخضع للضرائب أو الرسوم وبالتالي للقانون”، ومن التعريف نستطيع أن نَجِد أنَّ الاقتصاد الأسود يَتَّصِف بمجموعة من الخصائص أبرزها:

1. العمل خارج القانون: أي أنه يبتعد عن الاستظلال والاحتماء بالقانون ويعمل بعيداً عنه، وفي هذا الإطار نستطيع أن نلاحظ نوعين رئيسييْنِ من الأنشطة وهُمَا:

• أنشطة مسموحة من قِبل القانون: كالتجارة في السلع الغذائية والألبسة والمعدات الأخرى المسموح بالتعامل بها في إطار القانون، ولكن العمل بها يتم من خلال مخالفة القانون كالتهرب الضريبي بحيث لا يتم تسجيل التعاملات فيها قانونياً لتجنُّب احتساب الأرباح الحقيقية للشركة، أو إدخالها للبلاد عَبْر التهريب من أجل تجنُّب دفع الرسوم الجمركية، أو حتى الغش والتلاعب بالمواصفات، مما يجعل الموادَّ والسلع تأخذ قيمة أعلى من قيمتها الحقيقية، وتتحمل بالتالي تكاليف نظرية أعلى تُحقِّق في النهاية مصلحة الطرف الذي قام بعملية الغشّ.

• أنشطة ممنوعة في إطار القانون: كالعمل في تجارة المخدرات أو الأسلحة أو تهريب البشر أو تجارة الأعضاء، أو القيام بعمليات تصنيع مخالِفة للقانون كأن يتم تصنيع التبغ أو الكحول الذي غالباً ما تحصره الدولة بشركات معيَّنة أو حتى تصنيع الحبوب المخدرة وغيرها من السلع التي يُعَدّ التعامل بها أو حيازتها أمراً مُخالِفاً ويخضع لرقابة قانونية صارمة.

2. عمليات غسيل الأموال: ويطلق عليها أحياناً اسم “تَبيِيض الأموال” فهي بالأصل أموال سوداء أو أموال قذرة أي ناتجة عن القيام بعمليات خارج القانون في إطار ما تم ذكره في الخاصية السابقة، بحيث يتم تطويرها وإدخالها في مرحلة جديدة تُشبِه آلة الغسيل بحيث ترفع عن هذه الأموال ما فيها من أوساخ. وفي الواقع لا تصبح الأموال نظيفة، إذ تبقى من مصدر غير قانوني، ولكن يتم إخفاء الأوساخ والجانب الأسود منها بحيث يظهر للجمهور والمراقبين بأن هذه الأموال نظيفة، فغسيل الأموال في تعريفه الاصطلاحي: “إجراءات يتم اتخاذها لإخفاء مصادر تحقيق الأموال غير المشروعة والعمل على إدخالها في نهر الاقتصاد المشروع من خلال سلسلة من عمليات التحويل المالي والنقدي”.
وتتم عمليات غسيل الأموال في إطار إضفاء طابع شرعي على هذه الأموال لاستثمارها لاحقاً أو إيجاد طريقة لنقلها وتحويلها واستخدامها في عمليات سوداء من جديد، فليس مطلوباً دائماً أن يتم غسل الأموال لتدخل الاقتصاد الشرعي، فهذا له فوائده الاقتصادية وإن كان المصدر غير شرعي، ولكن ما يقوم به العاملون في الاقتصاد الأسود هو إنشاء شبكة تهريب لهذه الأموال تُسهِم في تطوير أعمالهم، لذا فالتعريف الأفضل لعملية تبييض الأموال هو إنشاء غطاء رقيق من الأعمال لإخفاء حركة الأموال بحيث يتم استخدامها في وقت لاحق في عمليات ضِمن الاقتصاديْنِ الرسمي وغير الرسمي.

3. الطرق الخفية والملتوية في تنفيذ الأعمال وتطويرها: وهي مسائل مترافقة مع الاقتصاد الأسود، ففهمه يكون صعباً ومعقَّداً ليس لصعوبة تكوينه بل لتعدُّد الأدوات التي يتم استخدامها ومحاولة إخفائها، واليوم -أكثر من أي وقت سابق- تتطوَّر أدوات الاقتصاد الأسود خاصة مع وجود البنوك الرقمية والعملات الرقمية وتعدد الواجهات والشركات القادرة على القيام بعمليات تحويل وبيع وشراء.

4. عدم القدرة على إحصائه: وذلك لكونه عادةً لا يدخل في حسابات الناتج المحلي الإجمالي والحسابات الاقتصادية الأخرى، لذا نجد عادةً أن الاقتصاد الأسود يتم تقديره أو تقدير جزء من أنشطته فقط ويستدلُّ عليها دون معرفة أماكنها على نحو دقيق أو حجمها الحقيقي، فهي شيء يمكن تخيُّله وتقديره ولكنه سُرْعان ما يتحرك ويتغير، فالأمر يُشبِه ظلَّ الشخص الذي تكون ملامحه غير واضحة تماماً.

5. اقتصاد وليس مجرد سُوق: فالحديث عن الاقتصاد الأسود هو حديث عن مكونات الاقتصاد كلها، بمعنى أنه يتوفَّر في هذا الاقتصاد أنشطة الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك لكل من السلع والخدمات.
وتتوافر في هذا الاقتصاد أسواق لسلع وخدمات عديدة يوجد فيها بائعون أو عارضون ومُشترُون أو أصحاب طَلَب، ويتمتع هذا الاقتصاد بشبكة أعمال رئيسية تتعلق بعمليات الإنتاج والتوزيع والتبادل، وكذلك شبكات ثانوية تتعلق بنقل الأموال والقِطَع والموادّ الأولية وحتى أجهزة الإنتاج، وتتوافر فيه عمالة وطلب وعرض ومختلف الآليات الأخرى التي تتوافر في الاقتصاد الطبيعي.

هكذا فإن الاقتصاد الأسود منتشر وممتدّ في عدد واسع من الدول، وبسبب عدم قدرة القانون على ضبطه وتعامُله بطريقة مختلفة مع مسألة الحدود القومية للدولة فقد يكون عابراً للقوميات في شبكاته وأسواقه، وهو لا يقتصر على العمل في الدول ضعيفة السلطة القانونية بل يجد ويبتكر أدواتٍ للعمل في مختلف الدول بما فيها تلك المتطوِّرة وذات القدرة على ضبط الأعمال الاقتصادية بشكل أكبر، وإن كانت بعض الدول كحالة سورية تشكِّل أرضية خصبة لمثل هذا الاقتصاد نظراً لعدد كبير من العوامل التي سنتطرق لها لاحقاً.

المصدر
موقع جسور للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى