الملفات السورية إقليمياً و”خلوّ” الرِّجْل الأمريكية/ د. جمال الشوفي
يبدو أن مخرجات لقاء “سوتشي” الأخير بين بوتين وأردوغان، بدأت بالترجمة على أرض الواقع في الشمال السوري عسكرياً، والمتزامنة مع لقاءات اللجنة الدستورية.
وكأن هذا اللقاء هذه المرة وجد مساحة أكثر اتساعاً للتفاهم والتقارب أكثر من ذي قبل، خاصة أن الإدارة الأمريكية بدأت تشير بوضوح لعدم جدية الروس بإحداث تقارُب عامّ حول المسألة السورية وطُرق حلها، وأنها تدير ظهرها لمجريات الاتفاق الممكنة بين الطرفين التركي والروسي، مع التأكيد على تغييب الدور الإيراني منه.
هذا مع ما يتضح أمريكياً بإدارتها الحالية، ورغم توصيات وزارة الدفاع الأمريكية بالانسحاب من ملفات الشرق الأوسط والاكتفاء بمواجهة الخطر الأكبر المتمثل بالتمدد الصيني عالمياً: تقنياً وجيوبوليتيكياً، أن قرار الانسحاب من سورية مؤجَّل لعامٍ قادم على الأقل، كما أشارت تقارير عدة.
ليست المرة الأولى التي يلتقي فيها الطرفان الروسي والتركي في “سوتشي” منفرديْنِ، والكل يذكر كيف قدم بوتين الأيس كريم السياسي لأردوغان قبل أعوام خلال زيارته لمعرض للأسلحة الروسية في موسكو لإتمام صفقة الـ S400، والتي أثارت خلافاً حادّاً مع أمريكا والناتو من خلفها، لم يُحَلّ لليوم.
وكذلك ضلوع الطرفين في الاتفاقات الثنائية حول ترسيم خطوط التماسّ بجوار الطريق الدولي M4 وM5، أو إدارة ملفات الشمال الغربي السوري، هذا عدا عن فعّاليتهم المشتركة في ملفات “أستانة” مع إيران.
وإذ يتفق الطرفان الروسي والتركي على منع قيام كيان كردي مستقل بدعم أمريكي شمال شرق سورية، وعلى أمان الخطوط البرية الواصلة من موسكو عَبْر أنقرة فحلب فالداخل السوري، إلا أنهما يختلفان نتيجةً على طريقة الحل السورية. فبينما تدعم تركيا قوى المعارضة السورية الممثَّلة بالائتلاف الوطني، واحتضانها ملايين السوريين على أراضيها، وفرض وصايتها شِبه الكاملة على منطقة إدلب وريف حلب الشمالي، وتدعم الحل السوري الأممي المقَرّ بالقرار (2254/2015).
في مقابل دعم روسي مطلق لسلطة النظام، ورغبتها بفرض هيمنته المجددة على كامل الأراضي السورية مرة أخرى، لتمسك من خلاله بالحل السوري منفردة من بوابة مخرَجات لقاء “سوتشي”، المسمى بلقاء الحوار الوطني السوري عام 2018، على طريقتها، مع مراوغة دائمة في استخدامها لعبارة الموافقة على مقررات (2254/2015) بالحل السوري لكن بطريقتها المفترضة بمحاربة الإرهاب في بنده الثامن، وإجراء تغيرات دستورية شكلية، مع بقاء إمساكها بالملفات الأمنية والعسكرية والاقتصادية بشكل منفرد ومطلق.
إدارة الظهر الأمريكية لملفات الشرق الأوسط تعني، ومن وجهة نظر المنطقة واللاعبين الإقليميين فيها، إمكانية إيجاد تقارُب بين وجهات النظر المتباينة حول ملفاتها. خاصة أن لدى أمريكا القدرة الدائمة على تعطيل أي اتفاق يمكنه تغيير معادلات الواقع، ويؤثر على المعادلات الدولية التي تحاول البقاء على إمساك أطرافها بشكل منفرد معولم، أو أقله ممارسة دور ضابط الإيقاع العالمي ذي الأذرع الطويلة الفاعلة.
وإدارة الظهر الأمريكية و”خلوّ” رِجْلها السياسية من المنطقة وغضّ طرفها عن التفاهمات الإقليمية الروسية التركية تعني:
– تحجيم الدور الروسي في المعادلات الإقليمية، مع الحفاظ على القدرة الأمريكية شِبه منفردة على المستوى الدولي.
– تغيراً في الإستراتيجية الأمريكية في المعادلات العالمية ووضع الصين هدفاً أولياً للتعامل معها دولياً.
– الدفع بتفاهم جدّي بين الأتراك والروس سواء كان على كيفية توزيع خارطة القوى في الشمال السوري كافة، أو من حيث إيجاد حل لجبهة تحرير الشام في إدلب، وإمكانية تبادل مواقع السيطرة خاصة مع الجانب الكردي في مناطق “منبج” و”تل رفعت” و”عفرين” مع ما يقابلها من احتمالات موجة عسكرية روسية في إدلب، كما بدأ أمس في أريحا.
– الدفع بالعملية الدستورية من خلال بوابة جنيف سياسياً، في سياق حل سياسي يوائم بين مصلحة الفريقين إقليمياً، خاصة روسيا جيوبوليتيكياً ودولياً.
وهذا ما يبدو متَّضِحاً بشكل أولي في سياق إحراز تقدُّم في جلساتها وإبراز الجدية فيها خاصة من قبل أطراف سلطة النظام.
– ستتيح إدارة الظهر الأمريكية للروس والأتراك القدرة على تثبيت مواقعهم الجيوعسكرية في سورية، والدفع بخطوات الحل المرتقبة السورية، على أن يبقى الجانب الأمريكي المقرر النهائي في كيفية تفصيل هذا الحل سياسياً، من بوابة 2254 الأممية.
وفقاً لهذا السيناريو، فإن أمريكا تبدو وكأنها المعطِّل لأي حل سوري، أو كأن الروس ضالعون بإيجاد حل للمسألة السورية، وأمريكا دائمة التعطيل له! ويبدو هذا في حقيقة الأمر صحيحاً من حيث التعطيل الأمريكي، بينما مجافٍ للحقيقة من حيث الدور الروسي.
إذ تدرك أمريكا جيداً المرامي الروسية لفرض سيطرتها المنفردة على الملف السوري، وتستعجل حلوله بما يُرضي طموحاتها الجيوبوليتيكية التوسعية من بوابتها وبطريقتها، وهو ما تعمل على تعطيله أمريكا دوماً
منعاً لفرضها قطباً عالمياً موازياً مرة أخرى.
هنا يُراقب دور الإدارة الأمريكية بهذا السياق على ترويض الدور الروسي في المعادلة العالمية وبقاء التفرد الأمريكي على قمته. هذا ما جعل السياسة الأمريكية طوال الفترة الماضية حول سورية تسمى بِاللَّاوَرَقَة، والتي تعني تماماً لا حلول لدى أمريكا مقترحة سوى الحل الأممي، فلتقدم باقي الأطراف خاصة الروس حلولهم، وترى بعدها أمريكا مدى مواءمتها لمصالحها أم لا.
ما جعل المسألة السورية عقدة دولية لا يمكن إرضاء أطرافها الفاعلة كلياً لليوم.
هذا بينما اتضح الدور التركي في هذه العملية من بوابة، لا عداء لا شراكة، والذي تم دراسته سابقاً بشكل مفصَّل، حيث يَنُوسُ بين التحالف الجزئي مع روسيا، والانفكاك الجزئي عن أمريكا، على ألا تستعدي أي الطرفين تكون هي الخاسرة فيه. فإذا ما نظر لوزنها الإقليمي ودورها المهم في شؤون المسألة السورية، فهي تكاد تكون نقطة التوازن العامّ بين الروس والأمريكان في هذا الشأن. فأي تقدم في مسار المسألة السورية تقوم به تركيا سيُرضي أمريكا ويحد من التفرد الروسي فيه.
وفي ذات السياق، فإن التقدم في الملف السوري روسياً وتركياً بمعزل عن أمريكا سيرضي الروس الضالعين بسيرورة الحلول الجزئية المُمَرْحَلة، والتي تقدمهم خطوةً خطوةً من استعادة مكانتهم العالمية. وفي الحالين سيكون الدور الذي تلعبه تركيا في الحالة السورية يوحي بذات الدور العام في نموذج سياستها البراغماتية والمتمحورة على حلول جزئية توظيفية بحيث لا تعادي أي أطراف المعادلة الدولية، وبذات الوقت لا تتحالف معها كلية.
مخرجات قمة “سوتشي” البوتينية الأردوغانية أظنها بدأت تترجم فعلاً على أرض الواقع حالياً، وستتبلور من خلفها خطوات سياسية وعسكرية ستراقبها الإدارة الأمريكية عن بُعد، وكأنها تدير ظهرها لها، بينما هي مكتفية لليوم بإدارة باردة وخالية من المحفزات والمغريات إزاء الملف السوري، بقدر اهتمامها بالملف الصيني عالمياً.
فهل سيجد الكثير من السوريين أنفسهم بمواجهة واضحة هذه المرة لا لَبْس فيها للوهم أو الخذلان، بمساعدة أمريكا لهم في التدخل في الشأن السوري؟ وأن لا همّ لأمريكا سوى إدارة الملفات الدولية حسب مصلحتها، ولو أرادت حسمها لفعلت منذ 2013؟ وهل يمكنهم حينها المراهنة على نقطة التوازن الإقليمية المتمثلة بتركيا، رغم ما سيحدث من عمليات عسكرية في الشمالين الغربي والشرقي السوري، في ترسيخ حل جزئي يتم الاتفاق على شروط إنجازه مرحلياً، تُقدِّم من خلاله روسيا بعض التنازلات في ملفاته السياسية العامة لترجيح كفة الحل السياسي السوري في مقابل تبادُل مواقع السيطرة في الداخل السوري؟ ونقطة بدايته ستكون الضغط باتجاه الفاعلية في ملف اللجنة الدستورية وإجراءات جزئية في الحل السياسي، سيكون أكثرها جدوى قبول التغير الجزئي في بنية النظام سياسياً.
أم ما زال ما خلف الأكمة غير متَّضِح لعين التحليل السياسية؟ فكل موضوع يتعلق بدائرة لعب الكبار الدوليين هي موضع دراسات تحتاج لزمن إنضاجها ووضوحها! خاصة أن المسألة برُمَّتها باتت ملفات جزئية مرحلية تديرها غرف الاستخبارات العالمية أكثر منها السياسية، وتأتي جملةً وتفصيلاً على حياة السوريين ومستقبلهم ومصيرهم العامّ.