مشروع دولة

يوم في وزارة الخارجية السورية/ كارمن كريم-صحفية سورية

هاجر السوريون في السنوات الأولى هرباً من الحرب والقتل والقصف أما اليوم فهم يهاجرون هرباً من الجوع، من الأوضاع المعيشية المتدهورة يوماً بعد آخر، ولأنهم باتوا متأكدين من أن لا مستقبل لهم ولأبنائهم في بلدهم.
جهزت نفسي جيداً، أعددتُ فطوراً، حرصتُ فيه على تناول التمر كي أحافظ على طاقتي أطول فترة ممكنة، ارتديت ثياباً مريحة، وضعت النظارة الشمسية، جمعت كلّ ما أحتاجه وما لا أحتاجه من أوراق رسمية، انتعلت حذاء رياضياً وانطلقت. إنها أسلحتي في رحلة الذهاب إلى وزارة الخارجية السورية.

الرحلة الطويلة إلى وزارة الخارجية
أمام وزارة الخارجية السورية، تمكنك ملاحظةُ رغبة شعب كامل بالهجرة، تشاهدُ نماذج مختلفة من السوريين، منهم الموظفون والزوجات والأطباء والأستاذ الجامعي والطالب والعجوز والمراهق. ينتشر المئات أمام المبنى الكبير، لتصديق أوراقهم أو الحصول على أخرى. قبل دخولك ستصادف أكثر من بائع متجول يعرض عليك شراء كمامة، محذراً إياك من أنك ستُمنع من الدخول من دونها، ولأنني جهزت نفسي مسبقاً وأعددت عدتي، فالكمامة في حقيبتي، لم أضعها إلّا حين وصولي أمام الباب الرئيسي كما يفعل شعبٌ كامل لا يبالي بالوباء. تمّ تفتيشي وقياس درجة حرارتي.

ننتظر أنا والمئات في طابورين، الأول للرجال والآخر للنساء، الشمس لاذعة، المرأة خلفي تقول إن قدمها المكشوفة من الحذاء الصيفي احترقت حرفياً بسبب الشمس، نتقدم ببطء، يُدْخِل الأمن مجموعةً من النساء ومجموعة من الرجال، لا تتعدى المجموعات 5 أشخاص في كل مرةٍ، تتكرر هذه العملية كلّ بضع دقائق. يحاول الأمن السيطرة على الأعداد الداخلة، بسبب الازدحام المخيف. لا يعني تجاوز الطابور الأول انتهاء الرحلة فبعد الحصول على الطوابع هنالك طابور آخر في الداخل، تنتظر خلاله أيضاً، لكن المدة هنا تتراوح بين الخمسة عشر دقيقة والنصف ساعة، أي أنها أطول من سابقتها، يهددنا الأمن بوجوب ارتداء الكمامة فالوباء يعيث بالبلاد، لا أعلم متى صار الأمن السوري يخاف علينا من “كوفيد-19” ولا يخاف علينا من نفسه!

أذهب لشراء الطوابع، يخبرني الموظف أن إحدى شهادتي الدراسية قديمة ويجب أن استحصل على واحدة جديدة، أقول له ما الفرق بما أن الورقة ستكون ذاتها مع اختلاف في التاريخ؟ إلا أنه يرفض، أعود أدراجي وهذا يعني أنني سأعاود الانتظار مرة أخرى في الطابور الخارجي الذي نجوت منه منذ قليل. أذهب باتجاه طلعة الإسكان في المزة، أنتظر في طابور للطلاب، أحصل على وثيقة الدراسة وأعود إلى وزارة الخارجية، حيث أنتظر مرة أخرى في الطابور الخارجي، ثم في الطابور الداخلي، أشعر بثقل رأسي تحت أشعة الشمس، يبدو أن مفعول حبات التمر الثلاث قد انتهى، وبدأ مستوى السكر في الدم يهبط بسبب الحر والتعب. الذهاب إلى دائرة حكومية في سوريا، يعني انتظار ساعاتٍ، ساعات من الإهانات والإشكالات بين المنتظرين والرشى التي تتطاير يميناً ويساراً.
(أفكر خلال انتظاري في الطابور بأربع وسبعين شخصاً أرادوا الهجرة وتمّ القبض عليهم وأعيدوا إلى سجنهم الكبير.)

هجرة غير شرعية من ساحل مدينة جبلة
74 شخصاً قرروا الهجرة مباشرة من ميناء مدينة جبلة في محافظة اللاذقية إلى أوروبا. يهاجر السوريون عادة بطرق غير شرعية إلى تركيا ومنها إلى اليونان ثم أوروبا، لكن ولأن هذه الطريقة باتت أصعب وأكثر تكلفة. يبدو أن أحدهم خطرت له فكرة عبقرية، بما أن البحر هو ذاته من اللاذقية أو تركيا فلماذا لا نهاجر مباشرة من الساحل السوري؟ لكن ولأن السوريين لم يهاجروا أو ينجحوا على الأقل سابقاً، ألقت الأجهزة المختصة في سوريا القبض عليهم وأعادتهم أدراجهم بالفعل بعد قطعهم مسافة قصيرة.

أفكر خلال انتظاري في الطابور بأربع وسبعين شخصاً أرادوا الهجرة وتمّ القبض عليهم وأعيدوا إلى سجنهم الكبير. هم يودون الهجرة بطريقة غير شرعية وأنا أحاول الهجرة بطريقة شرعية، لكننا جميعاً ما زلنا عالقين. قد يبدو الخبر مضحكاً في البداية فمن الذي يصدق أنه يستطيع الهجرة من ميناء جبلة؟ من يؤمن بذلك سوى شخص يائس وجائع! وهنا تكمن التراجيديا، في مقدار اليأس الذي قد يقود أحدهم لتجاوز كلّ المنطق بحثاً عن الخلاص. تدركُ رغبة السوريين وحاجتهم إلى المغادرة من خلال الأحاديث اليومية والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، التي يستغيث فيها الناس للرحيل، حتى أولئك الذين يدعمون النظام أو وصفوا الثورة بالإرهاب هم أول من يسعون للرحيل، يا للسخرية! ساعة انتظار في وزارة الخارجية السورية تختصر مشهد شعب كامل يصبو إلى الرحيل.

هاجر السوريون في السنوات الأولى هرباً من الحرب والقتل والقصف أما اليوم فهم يهاجرون هرباً من الجوع، من الأوضاع المعيشية المتدهورة يوماً بعد آخر، ولأنهم باتوا متأكدين من أن لا مستقبل لهم ولأبنائهم في بلدهم.

تقول صديقتي إنها جمعت بالفعل 3000 دولار أمريكي للمغادرة نحو تركيا، تستطيع اليوم الحصول على “فيزا” سياحية إلى هناك بنحو 3000 إلى 5000 دولار. يسخر سامر (اسم مستعار): “فرّ أكثر من 10 ملايين شخص، أيعقل أنني لم أملك مكاناً بينهم لأصل إلى أوروبا!”. وعلى رغم الصعوبات التي يتكبدها اللاجئون، ما زال سوريّو الداخل يحلمون بلحظة المغادرة شاتمين أنفسهم، هم الذين اتخذوا قرارات خاطئة قبل عشر سنوات، “سخرنا في البداية من اللاجئين واليوم نحسدهم”. وبحسب تقرير للأمم المتحدة هناك أكثر من 6.7 مليون سوري لاجئ وطالب لجوء في أكثر من 130 دولة حول العالم، وأكثر من 66 في المئة منهم نساء وأطفال.
(الذهاب إلى دائرة حكومية في سوريا، يعني انتظار ساعاتٍ، ساعات من الإهانات والإشكالات بين المنتظرين والرشى التي تتطاير يميناً ويساراً.)

هنا لا تنفع النسوية!
في طوابير الانتظار، تغدو سوريّاً حقيقياً، وهي مرتبة لن تحصل عليها إذا لم تختبر الطوابير ولو مرة واحدة، هناك حيث الأحاديث المصيرية عن مستقبل العائلة والأطفال، ويظهر أثر النسوية ونقيضها. تعترض امرأة على مساواة دخول الرجال والنساء، فقديماً النساء كنّ يدخلن أولاً، ترد أخرى: “هذه هي المساواة، ألم تردنَ مساواة بين الرجال والنساء”، فترد الأولى: “لا نريد مساواة ولا بطيخ، بدنا نفوت قبلهن بس!”، امرأة أخرى خلفي تتذمر كلّ دقيقة سائلة متى ستدخل، كأنها لا ترى طول الطابور وآلية العمل البطيئة، تكرر: “حسبي الله عليكن، ما تفوتونا، لك فاتو خمس شباب وما فاتوا النسوان، يا حبيبي على المساواة لوين وصلتنا”، يفرغ صبري في النهاية وأنظر نحوها: “أيمكن أن تتذمري بينك وبين نفسك، لن تدخلي قبلنا لو تذمرتِ للغد!”، ثم حل صمتٌ مريب، لم تشتمني كما توقعت، تخلل الصمت صوت أستاذ جامعي ينتظر في الخط الموازي، حريصاً على تذكير الجميع بمهنته رفيعة المستوى بيننا نحن السوريين المتواضعين.

أشعر بالذنب لأنني صرخت في وجه المرأة، لكن دماغي كان سينفجر لكثرة العبارات التي أطلقتها والتي لن تساعدها في صعود أول طائرة منطلقة إلى أوروبا في الغد. يتقدم طابور النساء رويداً رويداً، يكاد يقتلني البطء، إلّا أنني أشعر بالخلاص يقترب، لكن المرأة ذاتها خلفي تقول: “لا تفرحوا، جوا في طابور أكبر من هاد”، يبدأ الشرطي في عدّنا، ندخل، خمس نساء وفتيات، أحمل الرقم خمسة بينهن، تقف المرأة المتذمرة في أول صف الانتظار. في الداخل يخبرني الموظف بالذهاب إلى نوافذ الخدمة. أتقدم نحو النافذة، أمدّ أوراقي بتعب، ينظر الموظف إلى الأوراق ثم يبتسم في وجهي، أتساءل هل هناك ورقة ناقصة؟ يقول للشرطي بجانبي: “لك كيف ما بتفوتها دغري؟”، يرتبك الشرطي ويقول: “والله ما بعرف انها بتخصك”، وتخصّكَ تعني أنني من حاشيته أو من دائرته المقربة، أتفحص وجه الموظف مجدداً، لا يبدو مألوفاً، ليتابع: “هذه صديقتي”. المصادفة وحدها والحظ الجيد جعلا أحد أصدقاء المدرسة موظفاً في وزارة الخارجية السورية، وقد عرفني بمجرد قراءة اسمي. أفضل جزء في ذلك اليوم القاسي عبارة صديقي في وزارة الخارجية: “حين تأتين المرة المقبلة قولي لهم في الخارج أنك قادمة لعندي وستدخلين على الفور”، تأكدتُ من حصولي على الفرصة الذهبية “الواسطة”، وطلبت رقمه من دون تردد فربما يحدث شيء ويرفض الأمن إدخالي.

أحمل أوراقي وأغادر سريعاً، ما زالت المرأة المتذمرة تنتظر، تبدو عليها الدهشة لخروجي في أقل من خمس دقائق، أعبر من جانبها وأخرج حاملة نصري الصغير لهذا اليوم: “ورقة مصدقة وواسطة في وزارة الخارجية السورية وفرصة قريبة للهجرة”.

المصدر
موقع درج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى