حوارات وآراء

“صحوة” موسكو! / د. يحيى العريضي

تمنّى وعمِل سوريون كُثر أن تحدث صحوة روسية قبل أو خلال أو بعد ما فعلته في سورية؛ فهناك شِبه إجماع دولي بأنها صاحبة اليد العليا في القضية السورية؛ فما عليها إلا أن تعود لجوهر القضية، وتدرك أن جوهر الصراع ليس بين إرهاب ونظام، بل بين شعب يريد الحياة والحرية ومنظومة استبدادية تَحول دون ذلك؛ وهكذا يمكن لموسكو أن تخيّب آمال كل مَن يراهن على مستنقع خانق ينتظرها؛ وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية التي تلقي روسيا عليها باللائمة باستمرار كمعرقل للحل في سورية.

بعد فشل الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية؛ أتت أصوات من موسكو توحي بأن صحوةً ما تحدث. سمعنا صوتاً يقول: “وراء تفجير دمشق، وقصف أريحا جهة واحدة اختارت التاريخ المناسب لإيجاد الحجج لعدم السير في عملية الانتقال السياسي على الأساس الذي نص عليه قرار مجلس الأمن 2254”. وهنا سارعنا إلى القول إن الجهة الوحيدة التي تعرقل الانتقال السياسي هي “النظام”؛ وها هي موسكو تكتشف ذلك، وتقرعه علناً؛ واستبشرنا بصحوة.

زاد في الوضوح، وثبَّت إدانة النظام بالتعطيل القول الروسي الصريح بأنه «بات معلوماً لكل الأطراف بما في ذلك للأمم المتحدة، أن بعض أعضاء الوفد الذي يمثل دمشق تلقوا تعليمات من دمشق بعدم الموافقة على أي شيء، ومنع أي تقدم في عمل اللجنة الدستورية المصغرة».

اتضح أكثر أن هذه الأصوات مصدرها جهة وازنة في السياسة الروسية. لقد أتت على لسان السيد رامي الشاعر، المستشار المقرب من مراكز صنع القرار روسياً في الملف السوري، حيث يقول لصحيفة الشرق الأوسط إن «النظام في دمشق هو من يتحمل المسؤولية عن التفجير الذي حدث في دمشق، والقصف الذي حدث على أريحا؛ لأنه لم يتحلَّ بالمسؤولية التي تفرض عودة مؤسسات الدولة لعملها بشكل طبيعي». وزاد، أن «أكبر دليل على ذلك إفشال دمشق المقصود للجولة السادسة للجنة الدستورية».

من باب التوازن والموضوعية، لا بد من فهم أبعاد تلك الأقوال ووضعها في سياقها؛ وخاصة أن تصريحاً روسياً رسمياً لم يصدر من موسكو باستثناء عدم تحميل السيد “لافرنتييف” في تعليقه على فشل الجولة، جهات أخرى- غير النظام- مسؤولية إفشال المفاوضات، كما جرت العادة. وهنا ربما تعتبر ما فعلته منّة ومعروفاً كبيراً، عندما تفسح في المجال للمعارضة والغرب لينتقد إفشال النظام للعملية؛ فهي ما تعودت أن تسمح أو ترضى بتحميله حتى جزءاً من المسؤولية؛ ولا تُحصى تلك المرات التي اضطرت لمجانبة الحقيقة لإنقاذه- حتى لو استخدمت الفيتو.

لقد بات الحرص والتفاني الروسي -إلى حد الحرج- في خدمة “منظومة الأسد” والسعي الحثيث لإعادة تكريرها معروفاً، ولا يحتاج إلى عبقرية أو بحث معمق؛ ولكن ما يحتاج إلى إثبات هو تقديم روسيا لنفسها كوسيط منصف في القضية السورية.

وهذا دفع بعض المراقبين إلى القول بأن روسيا إما لا تريد حلاً- في تحدٍ صارخ للسوريين وللعالم- ولا تكترث بما يُقال عنها ولا بالمواقف تجاهها؛ أو أنها تريد تفصيل حل حسب مصالحها ومصالح منظومة الاستبداد التي تحميها في سورية.

من جانب آخر، ما يدحض هذه الرؤية “المتشائمة” هو تلك الأصوات التي تخرج من وقت لآخر، وتسمّي الأمور بمسمياتها.

أولئك الذين يصرّون على وصف السياسة الروسية بالبهلوانية يرون أن هذا اللوم أو التقريع للنظام يأخذ شكلاً ونمطاً جديداً من البهلوانية مؤداه في المحصلة النهائية تنزيه أو تطهير “الأسد” حصراً من المسؤولية تجاه الفشل الحاصل.

فهذه الأصوات الروسية أضافت لتصريحاتها بأن “الأسد”، “قد لا يكون مسيطراً على الوضع تماماً”؛ ثم ذهبت إلى تبرئته من مجزرة أريحا الأخيرة- كمتسبب بانهيار الجولة- عندما قالت “لا علاقة له بقرار القصف”.

وهنا عودة لتلك السطحية في مقاربة الأزمة السورية: “الرئيس كويس، لكن مَن حوله….”. وهنا غمز ولمز من جانب إيران أو مِمَّن يحيط ببشار الأسد.

في حديثها عن التفجير الذي حصل في دمشق خلال الجولة، وجّهت تلك الأصوات اللوم لـ “مؤسسات الدولة التي لم تعمل لمنع عمل إرهابي كهذا”.

وفي هذا تبرئة واضحة للمنظومة من ارتكاب الفعلة، والسير في ركاب سردية النظام. فالصوت يلومها لأنها “لم تمنع العملية” لا لأنها ارتكبتها؛ ومصلحتها واضحة في ذلك- كما توحي التصريحات الروسية: “إفشال الجولة”. من جانب آخر أليست هذه الصحوة متأخرة بأن “مؤسسات الدولة” لا تعمل، بل مَن يعمل هو فقط عصابات إجرامية مستبدة؟! ومن جانب ثالث، ألا تعمل بعض تلك المؤسسات شراكة أو تحالفاً مع مؤسسات روسية؟! وهل أهل قريتنا هم مَن جَلَبَ “السوخوي” و “فاغنر” إلى سورية؟!

إذا كانت موسكو حريصة فعلاً على حل سياسي ينقذ سورية ويحفظ مكانتها؛ عليها- ولو لمرة واحدة- أن تكون منسجمة مع نفسها. ليست ذكاءً ولا عبقرية أن ترتكب الأفعال الشائنة، وتنهج السياسات المتعثرة، وترمي باللائمة على الآخرين. لوم أمريكا كمعطِّل للحل طيلة الفترة الماضية لم يجدِ، ولن يزيد الحال إلا تعقيداً؛ ورمي اللوم على المعارضة، ثبتت سطحيته، والتحجج بالإرهاب اتضح زيفه، لأننا لم نر استهدافاً روسياً واحداً لداعش أو النصرة؛ والأهم من كل ذلك توجيه اللوم مواربة ورفع عتب لنظام الاستبداد، لن يكون إلا استمرارية لسياسات روسية بهلوانية تزيد في الغرق الروسي بمستنقع الفشل.

الطريق واضحة تطبيق حرفي للقرار الدولي 2254 وانتقال سياسي في سورية يحفظ حياة وكرامة الجميع. لقد تعب أحرار سورية من ذُكْرِ وتذكير موسكو بما فعلته وما عليها فعله في سورية؛ وليست “طوباوية”، أو انفصالاً، أو انفصاماً عن الواقع إذا ما تمّت تسمية الأمور بمسمياتها، وبصدق، ودون مواربة، قد يكون ثمنها غالياً.
——–
عن الفيسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى