مشروع دولة

تجربة منسيّة في تاريخ العلمانيّة “السورية”/ سامي مروان مبيض

في عام 1938، حدثت مواجهة بين المجتمع السوري المُحافظ وسلطة الانتداب الفرنسي الحاكمة في حينها، التي حاولت فرض العلمانية الغربية عليه عبر قانون جديد لتنظيم الأحوال الشخصية، وقد ورد ذكره في كتب التاريخ، دون الدخول في تفاصيله، ولكنه ذهب أدراج الرياح بسبب شدة معارضة قادة المجتمع له.
نص القانون الذي حمل الرقم 60 وجاء بتوقيع المندوب السامي هنري دي مارتيل، على السماح لأي مواطن سوري بلغ سن الرشد أن يختار دينه وأن يتنقل بحرية من طائفة إلى أخرى، أو من دين إلى دين، دون إعلام مجلس الملّة، الكنيسة أو دار الإفتاء، وحدها الدولة أصبحت مخوّلة بالموافقة على هذه التنقلات وحماية من يقوم بها. وسمح القانون لأي امرأة مُسلمة أن تتزوج من مسيحي، كما وضع “الطائفة السنّية” في تساوٍ مع المسيحيين والدروز والمسلمين الشيعة، في كافة الحقوق والواجبات.
حاول الانتداب الفرنسي فرض العلمانية الغربية على المجتمع السوري عبر قانون جديد للأحوال الشخصية نص على حق أي مواطن سوري بلغ سن الرشد باختيار دينه والتنقل بحرية من دين إلى آخر دون إعلام مجلس الملة، الكنيسة أو دار الإفتاء
الموضوع لم يكن جديداً على فرنسا في سورية، فقد حاولت ومنذ منتصف العشرينيات، تحجيم سطوة رجال الدين، وقامت بسحب معظم صلاحيات القضاة الشرعيين، أملاً بإقصائهم عن قيادة المجتمع. جاء ذلك يوم 28 نيسان 1926، ونص القرار على تحويل كافة قضايا الأحوال الشخصية، من المحاكم الشرعية إلى المحاكم المدنية، إلّا فيما يتعلق بأمور الزواج والطلاق.
اعترضت الجمعيات الإسلامية بشدة على هذا القرار، كما اعترض رئيس الدولة السورية المُعين قبل يومين، الداماد أحمد نامي، وهو رجل شركسي عِلماني ومن وجهاء بيروت، متزوج من كريمة السلطان عبد الحميد الثاني. توسط الداماد لدى المفوضية العليا في بيروت، قائلاً إن الوقت غير مناسب لفرض قرار صادم من هذا النوع، قد يُطيح بحكومة الوفاق الذي كان يرأسها، والتي كانت تضم عناصر فعالة من الحركة الوطنية، مثل نائب رئيس غرفة تجارة دمشق، لطفي الحفّار، وعميد كلية الحقوق، الوزير السابق فارس الخوري، وحسني البرازي، أحد زعماء مدينة حماة.
خوفاً على حكومة الداماد من الانهيار السريع، قررت فرنسا طيّ القرار وتأجيله، وأعيد طرحه مجدداً خلال حكومة الرئيس عطا الأيوبي، سنة 1936، ولكنه رفض تنفيذ القرار بحجة أنه رئيس وزراء مؤقت، مهمته الوحيدة هي الإشراف على الانتخابات النيابية والرئاسية المُقبلة، وليس التصديق على قرار مصيري من هذا النوع. قال للفرنسيين بحزم: “هذا القرار عبارة عن انتحار سياسي، وهو غير قابل للتنفيذ”.
ظلّ الموضوع معلقاً حتى وصول جميل مردم بك إلى الحكم، وهو علماني الهوى، درس العلمانية الأوروبية وتبناها عن قناعة منذ أن كان طالباً جامعياً في مدرسة العلوم السياسية العليا في باريس، وقد وصل إلى سدة الحكم قبل سنتين، بعد إبرام اتفاقية مع الفرنسيين تضمن حصول البلاد على استقلالها التدريجي، شرط أن تحتفظ فرنسا بمستشاريها الفنيين داخل مفاصل الحكم في سورية، مع حق تدريب المدرسين السوريين وتأهيل ضباط الجيش السوري عند إنشائه.
كما أعطت اتفاقية عام 1936 للجيش الفرنسي حق استخدام الأراضي السورية، بما فيها من مطارات وقواعد بحرية وجوية، في حال نشوب حرب عالمية جديدة في أوروبا. عاد مردم بك من مفاوضات باريس منتصراً، حيث اعتبرت الاتفاقية إنجازاً عظيماً في حينها، كونها المرة الأولى التي تعترف فيها الحكومة الفرنسية بضرورة مغادرتها للأراضي السورية، ولو بعد حين، وبشرعية الكتلة الوطنية التي قادت تلك المفاوضات، بممثل شرعي للشعب السوري.
الشارع العلماني
كان غالبية العلمانيين السوريين يومها من اليسار ومن فقراء المدن، لا شيء يجمعهم بالمطلق مع أمثال جميل مردم بك، لا صوت لهم في أروقة الحكم الجديد ولا قدرة تنظيمية أو مال، حتى لا زعيم يلتفون حوله أو مُنظّر. أعجب العلمانيون اليساريون بالثورة البلشفية التي أطاحت بقيصر روسيا نقولا الثاني، لنصرتها العامل والفلاح، وحاولوا الاتصال بزعيمها فلاديمير لينين، طالبين منه العون العسكري في مواجهة القوات الفرنسية التي نزلت في الساحل السوري منذ عام 1918.
لم يخفَ عنهم منع حكام موسكو الجدد للمطبوعات الدينية بكافة أشكالها، وإغلاقهم للكنائس ومطاردتهم للخوارنة والمطارنة، نفياً واعتقالاً وتهجيراً، وسعيهم المُعلن والدؤوب لإقامة دولة لادينية بدلاً من الدولة القيصرية البائدة التابعة للكنيسة الأورثوذوكسية. ردت جريدة العاصمة الرسمية سنة 1920، رداً مطولاً على المطالبين بفرض العلمانية السوفياتية على المجتمع السوري، جاء فيه:
“لا يسعنا نحن المقيمين في هذا القطر، البعيدين عن روسيا، أن نحكم على الحركة البلشفية إلا بما يأتينا من أخبار، سواء مما يقوله الروس أنفسهم أو ما يكتبه الأوروبيون الذين عادوا من روسيا البلشفية. فإذا صدقنا هذه الشهادات، وليس عندنا سواها بما يستعان به، فإن البلشفية من أكبر آفات العمران وشر ما ينبلي به الشعوب. إن روسيا اليوم باتت فريسة للفوضى والجوع، وإنها شهدت من الظلم والاستبداد والقهر ما جعل من أهلها يترحمون على حكم القيصر”.
أحد أسباب رفض القانون العلماني في سوريا هو اقتراب رجال الدين من المجتمع الدمشقي عبر مدارسهم وجوامعهم وإنعاشه بأموال الزكاة بعد الحرب العالمية الطاحنة، بينما بقي العلمانيون السوريون داخل غرفهم المغلقة دون برنامج عمل واضح
في الوقت الذي لم يفارق العلمانيون السوريون غرفهم المُغلقة، ولم يعطوا للناس أي برنامج عمل واضح، كان رجال الدين ينزلون إلى الشارع، يديرون مدارسهم وجوامعهم ودور الأيتام التابعة لهم، ويصرفون من مال الزكاة على المجتمع الدمشقي المعدم يومها، نتيجة أربع سنوات طاحنة من الحرب العالمية. كان الشارع الإسلامي منظماً للغاية، له مرجعيات تاريخية واضحة وأسر دينية معروفة، من علماء وخطباء ومدرسين ومفسرين، حكموا دمشق طوال أربعة قرون دون أي انقطاع. هذه العائلات، أمثال الغزي والمحاسني والحمزاوي والخطيب والعجلاني، كانت مسيطرة على منبر الجامع الأموي، وعلى دار الإفتاء وعلى نقابة الأشراف، تتوارث المناصب بشكل هرمي من جيل إلى جيل.
حصل مردم بك على موافقة على قانون الأحوال الشخصية من زميله في الحكومة وزير العدل، عبد الرحمن الكيّالي، خريج جامعة بيروت الأميركية، المتأثر أيضاً بالفكر العلماني الغربي. ظنّ رئيس الحكومة أنه قادر على فرض الأفكار العلمانية على المجتمع، ولكنه أدرك سريعاً استحالة هذا الأمر، تحت إلحاح وضغط من العلماء والجمعيات الدينية والعلماء، وعلى رأسهم الشيخ كامل القصاب، الذي هدد بعصيان مُسلح في طول البلاد وعرضها لو أكمل مردم بك مشروعه.
انتهى المشروع العلماني في سوريا باستقالة الرئيس جميل مردم بك، إرضاءً للشارع المحافظ، وطي القرار إلى أجل غير مسمى بعد انفجار قنبلة في سيارته على أبواب السراي الحكومي
وعند انفجار قنبلة في سيارته على أبواب السراي الحكومي، أدرك جميل مردم بك مدى جدّية كامل القصاب في تهديداته. وبعد إعطاء موافقته الأولية على القرار الفرنسي، تنصل رئيس الحكومة منه وأعطى أمراً معاكساً لكافة المحاكم السورية بعدم تطبيقه، بحجة أنه لم يحصل على موافقة مجلس النواب.
ثم قدم مردم بك استقالته من منصبه احتجاجاً عليه وإرضاء للشارع المحافظ. الحقيقة أنه استقال عند وصوله إلى طريق مسدود في مفاوضاته مع الفرنسيين، الذين رفضوا تنفيذ اتفاقية العام 1936، بحجة أن الحرب مع ألمانيا كانت على الأبواب، وأنهم غير قادرين على التخلي عن أي من مستعمراتهم في الشرق الأوسط وهم يواجهون أدولف هتلر في أوروبا.
قرر مردم بك التذرع بقضية قانون الأحوال الشخصية وبسلخ لواء إسكندرون عن سورية، ليخرج من الحكم كبطل قومي. قبل مغادرته مكتبه في السراي الكبير، شكّل لجنة لإعادة دراسة القانون، مؤلفة من أمين فتوى دمشق الشيخ عبد المحسن الأسطواني، الشيخ كامل القصاب، رئيس محكمة التمييز مصطفى برمدا والقاضي المسيحي حنّا مالك، وقرروا مجتمعين طي القرار إلى أجل غير مسمى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى