الوطن

صباح فخري.. حامل مفاتيح المدن والقلوب/ كوليت مهنا

مع طالع كل فجر أطرب فيه بسماع صوت مؤذن حيّنا الشجي، أتذكر الفنان صباح فخري الذي بدأ حياته مؤذناً، وأجرب أن أتخيل التأثير المماثل الذي كان يحدثه صوته النقي في نفوس مستمعيه حين كان يرفع الآذان من جامع الروضة في حلب قبل أكثر من ستين عاماً، وقبل أن يخرج من دائرته الدينية وينتقل إلى رحاب الحياة الدنيا، ويتحول إلى ظاهرة فنية استثنائية.

يستحق صباح فخري بسيرته الثرية لقب الأسطورة بجدارة، وهو، صباح الدين أبو قوس، الذي منحه الزعيم الدمشقي وراعي الفنون فخري البارودي اسمه، وتبناه فنياً وصقل موهبته في أربعينيات القرن الماضي، وقد أمضى حياته، التي توقفت قبل أيام عن عمر 88 عاماً، ثابتاً عميقاً، مجتهداً مثابراً، ملهماً ومعلماً في خدمة الخيار الفني الذي سلكه منذ البداية، المتمثل بإحياء التراث وأصول الطرب وفنونه.

قياساً إلى منشأه الحلبي المحافظ، حيث أمضى طفولته ويفاعته بين حلقات الذكر والانشاد وحفظة القرآن وتسخير صوته لخدمة الدين، يمكن أن يحتسب لصباح فخري ثلاث إنجازات حققها في حياته. يتمثل أولها بخياره الفني بتوجهه نحو عالم الطرب، وهي شجاعة ملفتة تسجل له، يمكن اعتبارها بمثابة ثورة فردية، وخطوة رائدة وتنويرية، تماهت مع العصر وأدركت أهمية الفنون ورقي دورها في المجتمع، وواجهت بجرأة عادات وتقاليد بيئة محافظة، لاتتسامح في المعتاد مع مثل هذه التحولات النوعية في حياة امرىء كان محسوباً على جماعات الدين.

لكن صباح فخري وازن بموهبة بين الدين والدنيا، ولم يتخل عن تدينه العميق وخبرته الواسعة في علومه من أحكام التجويد ومخارج الحروف وتحسين النطق وغيره، بل استند إليها وسخرها كركائز بنيوية أصيلة في ذاته، ساعدته في حسن الذائقة، والاحترافية العالية، واختيار أبهى فنون الكلام وتناسقه، وملائمته التامة مع خامة صوته، ومع فنون الموسيقى والمقامات واللحن، بحيث لم يتردد الحاج” صباح” لاحقاً في خدمة كل مايغني دينه ويثريه بالطرق الفنية الرفيعة، مثل أسماء الله الحسنى المغناة.

فيما يتمثل إنجازه الثاني بحصر خياره الوحيد في عالم الطرب الأصيل وإحياء التراث الشفوي والمكتوب. وهي مهمة ليست يسيرة بالمطلق، إن من ناحية اختيار الكلمات الصالحة للغناء، أو إبداع اللحن المطاوع لها. لأجل هذه المهمة الصعبة، بدت القدود والموشحات ذات المرجعية التاريخية المحتسبة على عصر الاندماج العربي-الأوروبي والانفتاح الاسلامي الأندلسي، وذات الجذور التاريخية التي تعود للكنيسة السريانية المشرقية كما تفيد بعض المراجع التاريخية، الخيار الوسطي والعصري الأنسب، لتميزها ببساطة الكلمة وعمقها الشعري، ومرونتها وثراء تنوعها، وإمكانية توافقها مع اللحن، بحيث تناغمت في انسيابية بدت مدهشة في معظم الأوقات مثل: “قدك المياس ياعمري ياغصين البان كاليسر”.

باختياره لأجمل ماكتب من أشعار الغزل، مثل(أخت شمس ذات أنس دون كاس أسكرتني) للشيخ أمين الجندي، وهو فقيه وقاضي حنفي وشاعر حمصي عاش في القرن الثامن عشر، والتعامل معها برؤية رحبة وحرة، منحت مشاعر الحب والجمال ودون تحفظ، أولوية وقيمة فنية حضارية في الحياة تليق بهما، قدم صباح فخري خدمة جليلة ومضاعفة للأجيال تعتبر إنجازه الثالث، عبر نبشه لهذه الروائع والتعريف بها، وحفظ الكلمة المغناة باللغة العربية الفصحى، وهو تحدٍ طربي مضاف، حين يتمكن أي مطرب وملحن من تطويع الفصحى الصعبة وتلحينها، والأهم نجاحها جماهيرياً بل وحفظها وتناقلها بإعجاب شديد.

يمكن الإضافة هنا، أن اللغة العربية الفصيحة التي “طرزها” صباح فخري بصوته، وأضفى عليها “لمسته” الحلبية الخالصة، لم تنحصر بقبولها ضمن الحدود القطرية لبلاده، بل لاقت قبولها الشديد في مسامع جميع العرب ومن ثم العالم الغربي، الذي انتشى طرباً بحفلاته التي أقامها في عدد كبير من مسارح وقاعات مدن العالم، منها حفلته الشهيرة في قصر المؤتمرات بباريس وقاعة نوبل للسلام في السويد وقاعة بيتهوفن في بون ألمانيا، ومدن مثل ميامي ولاس فيغاس وديترويت، حملّته مفاتيحها تكريماً لدوره الثمين في إغناء الحركة الفنية التراثية العربية.

ينسب لأبي العلاء المعري قول مفاده:” إن الله اختار طباخين من حلب ليكونوا مسؤولين عن مطبخ الجنة”. ولو كان فيلسوفنا القدير حياً وأنصت وأُطرب لصوت صباح فخري، ربما لأضاف أن المغنيين في الجنة أيضاً من حلب.

حقاً كيف تمكن هذا الرجل من الغناء لعشر ساعات متواصلة في مدينة كاراكاس في فنزويلا؟؟ وكيف أذاب قلوب ملايين الجماهير في كل مرة كان يمرر بها كلمة ” ياخيّو”الحلبية.

إنه صباح فخري الذي يختم برحيله الزمن الجميل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى