الوطنعائدون

سوريات يبحثنّ عن رزقهم في مكب للنفايات / كمال شيخو

في شمال شرقي سوريا..
غير مبالية بالروائح الكريهة والأوساخ المتناثرة والأضرار الصحية، تنبش عفراء بجسد نحيل أكوام القمامة عند أطراف بلدة المالكية أو “ديريك” بحسب تسميتها الكردية التابعة لمحافظة الحسكة، وبأصابع قد برز عظمها من أسفل الجلد بشكل لافت، تتناول بعض علب البلاستيك والمعادن من هنا وهناك، لتضعها في كيس كبير كانت تحمله رغم اتساخه، لتبيعه في آخر النهار إلى تاجر، لتأمين قوت يومها ودخل عائلتها التي تقطعت بها السبل، جراء نزوحها واستمرار الحرب الدائرة في بلدها منذ 10 سنوات.
تتردد هذه السيدة الخمسينية إلى مكبّ للنفايات يقع بريف المالكية بحثاً عن رزقها أو بعض الطعام بين أكوام وأكياس النفايات لتسد جوعها، وعفراء المنحدرة من بلدة الصور بريف دير الزور الشرقي، هربت قبل خمس سنوات من قبضة متطرفي تنظيم (داعش) بعد سيطرتهم على المنطقة آنذاك، واستقرت في المالكية. وعن عملها تقول في حديثها لمجلة طلعنا عالحرية: “هذه نعمة، إذا رفضناها سنموت جوعاً، رغم كل هذه الأوساخ والروائح أستطيع تحملها لتأمين مصروف بيتي وعائلتي”. أثناء حديثها حدقت في أكياس النفايات السوداء المتناثرة بكل مكان، وبين يديها كيس فارغ لوضع قطع البلاستيك، وأضافت قائلة: “ظروفنا قاسية، وأسعار المواد والسلع الأساسية ارتفعت كثيراً، وأنا أعمل لسدّ نفقات أسرتي، لأن زوجي لا يستطيع العمل، فقد أصيب بشظية قذيفة هاون عندما هربنا من الصور”.
وفي هذا المكبّ يتهافت نسوة وفتية وأطفال تجاوز عددهم 40 شخصاً فور وصول شاحنة محملة بالنفايات، للبحث عن عبوات بلاستيكية ومعادن لبيعها، أو ثياب مستعملة لارتدائها، حيث يجدون بعض بقايا طعام يتناولونه أثناء العمل، رغم أضراره، ولكن يفعلون هذا لسدّ جوعهم. وبعد وقوف الشاحنة يرمي عاملان الأكياس البلاستيكية السوداء، ليسارع الموجودون في المكبّ إلى استكشاف محتوياتها، ومن حولهم يتصاعد دخان ناتج عن حرق كميات من النفايات في هذا المكبّ الضخم.
على الجهة المقابلة يختلف المشهد؛ حيث تخترق هدير آلات تقليدية لاستخراج النفط ضجيج المكان، وعلى بعد مئات الأمتار يقع إحدى حقول النفط الغنية بالطاقة الواقعة تحت نفوذ الإدارة الذاتية وجناحها العسكرية “قوات سوريا الديمقراطية”، والتي تحولت لصراع نفوذ بين قوات التحالف الدولي والجيش الأمريكي من جهة، والقوات الروسية من جهة ثانية، وتمرّ دوريات متعددة كل منها ترفع علم بلدها على الطريق الإسفلتي الفاصل بين مكبّ النفايات وحقل النفط المجاور.
وتشير تقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى وجود أكثر من 5 مليون نازح فروا من منازلهم داخل سوريا، من بينهم عفراء التي تعمل في هذا المكبّ، وكانت ترتدي فستاناً أحمر داكناً وغطاء رأس أسود اللون، مربوطاً بوشاح، وأعربت عن مشاعرها لتقول: “نعم أجني مالاً قليلاً من هذا العمل المتعب والمرهق، لكن هو أرحم من العيش لحظة واحدة تحت رحمة خيمة”، وارتسمت ابتسامة خجولة على وجهها لتضيف: “اليوم صار علبة الزيت حقها 7 آلاف ليرة (2 دولار أمريكي) ما يعادل كل المصاري التي أجنيها باليوم من هذا العمل”!
والعاملات في هذا المكب عموماً كانت تكسو ملابسهنّ طبقة سميكة من الأوساخ؛ لبحثهنّ المستمر بين أكوام القمامة والتنقيب عن النفايات، يستخدمن قضباناً معدنية مقوسة لإخراج قوارير البلاستيك. وتزيد عفراء بشيء من الشجاعة والحزم إنها تفضل العمل في هذا المكان على المكوث بمخيم تنتظر سلة غذائية أو مساعدات إنسانية: “العمل أساس الحياة ورغم كل هذا الوسخ والأمراض والتعب الكبير وقلة المردود.. نحمد الله ونشكره على كل حال”.
أما منى البالغة من العمر خمس وأربعين عاماً، المنحدرة من مدينة الباب بريف حلب الشرقي، وتسكن منذ نزوحها قبل 4 سنوات في المالكية بالحسكة، اصطحبت طفلتيها هدى ذات 12 ربيعاً وأختها الأصغر مرام 10 سنوات للعمل معها في هذا المكبّ؛ فهذه العائلة تجمع في نهاية اليوم قرابة 50 كيلو غرام من البلاستيك الصالح للبيع، وما يجنونه لا يتعدى 20 ألف ليرة (ما يعادل 6 دولار أمريكي) وكانت تلبس بنطالاً طويلاً وسترة لحمايتها، وقالت الوالدة لمجلة طلعنا عالحرية: “كيلو اللحمة صار حقه 20 ألف والفروج 5 ألاف ليرة، وما نجنيه من هنا نشتري به أكلاً يكفينا ليوم واحد، أو ندفع فاتورة دواء ضروري”.
وبدا على ملامح وجهها الحزن والأسى عندما تتذكر منى سنوات النزوح وما آلت إليه أوضاعها المعيشية والاقتصادية، انهمرت دموعها لصعوبة الحال قبل متابعة كلامها، وتمالكت نفسها وعبرت قائلة: “مضت سنوات ونحن هنا نازحين، فبسبب ضيق الحال وقلة المساعدات بحثت عن عمل دون جدوى، حتى بدأت العمل هنا منذ سنتين مع جاراتي”.
ونظراً لتقاعس المنظمات الإنسانية عن تلبية حاجات النازحين، وتدني الأوضاع المعيشية بمراكز الإيواء ومخيمات النزوح، اضطرت منى للعمل كما المئات من النساء اللواتي يعملن وحيدات في مهن مختلفة، ويواجهن تحديات كبيرة في إعالة أسرهن. وتضيف بحسرة ممزوجة بتحدي: “نعم، أجبرتني الظروف على العمل بمكب نفايات، لكنني اكتشفت طاقتي ومدى تحمل مسؤولياتي، واليوم عملي يغطي معظم احتياجات أولادي”.
ووفقاً لمفوضية شؤون اللاجئين؛ يصيب انعدام الأمن الغذائي نحو 79 إلى 85 في المائة من إجمالي اللاجئين والنازحين حول العالم، وسوريا من البلدان الأكثر شيوعاً، مما يبرز مدى ارتفاع تعرض الأسر التي تعولها النساء للخطر؛ حيث تتبع نحو 90 في المائة من العائلات السورية، استراتيجيات وأساليب تأقلم سلبية للبقاء على قيد الحياة.
واختتمت منى حديثها لتقول: “نفسيتي تغيرت عندما تحسن وضعنا المعيشي، وشخصيتي أقوى وصرت أشتري الفواكه والخضار واللحمة والدجاج والبيض، ولم يعد غذائنا يقتصر على وجبة واحدة أو أكل النواشف”.
————–
عن موقع طلعنا عالحرية : https://freedomraise.net

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى