الوطن

إعادة الإعمار في سوريا، الواقع والتجاذبات الدولية / بسام جميدة – دمشق

عندما طرحت فكرة الكتابة عن موضوع إعادة إعمار سوريا منذ عدة أشهر على عدد من المختصين والباحثين الاقتصاديين والسياسيين تردد كثير منهم في المشاركة برايه بهذا الملف، ليس للأسباب التي تواجهنا في العادة، ولكن بسبب غموض وتشعب هذا الملف.
وكما قال لي أحدهم “الملف شائك ومن الصعب تناوله بهذه البساطة، والأسباب كثيرة وأهمها أن الحرب لم تضع أوزارها، وأن المجاميع المسلحة والمدعومة خارجيا لا زال بعضها مسيطرا على الأرض، كما أن الحكومة لم تطرح رؤية واضحة حول هذا الموضوع المهم والحساس، وأن الإعمار كعكة دسمة بالنسبة للدول الخارجية وكل يريد اقتسامها حسب مصالحه ورغبته..”
حقا وبعد مرور عشر سنوات على الأزمة السورية وما خلفته من دمار على كافة الأصعدة، يبدو دماراً المدن فظيعا، حيث خلف النزوح والتشرد الذي يعاني منه المواطن السوري الذي بات ينتظر ساعة الفرج لكي يتم البدء في خطة الإعمار، إضافة لدمار البنى التحتية، والمواطن تفرض عليه رسوما وطوابع في كل معاملة يقوم بها تحت بند رسوم إعادة إعمار، وغالبا ما يسمع عن معارض ومؤتمرات وندوات تقام تحت عنوان إعادة الإعمار، وأنه هناك لجنة مركزية وتنطلق منها لجان فرعية أسمها لجنة إعادة الإعمار وتعويض المتضررين، ولكن شيئا من هذا لم يتجسد واقعيا.

مفرزات الحرب
يمر سليم ح، 50 عاما، مرتين كل أسبوع أمام بيته الذي بات عبارة عن ركام في أحد مناطق ريف دمشق، يقف متحسرا، بعد أن يكون قد قطع حوالي 15كم من مكان نزوحه حيث سكنه الذي بات عبارة عن مجرد ذكريات، تسقط من عينيه دمعة حرة لضياع شقاء عمره وملعب أولاده، يتألم أكثر في سكن النزوح الذي هو عبارة عن غرفة ومنافعها، ويدفع إيجارها ما مقداره – 50 ألف ليرة سورية – كل شهر، ودون ادنى رفاهية ممكنة مع أطفاله الخمسة، ويقول وهو ينظر لهذا الكم الهائل من الدمار في منطقته “دفعنا الثمن غاليا، هكذا أصبحت بيوتنا، وبتنا هكذا نازحين، عائلتنا كل شخص في مكان ما، لا نعرف ما هو المصير، ومتى العودة لبيوتنا وكيف سنعيد إعمار ما هدمته الحرب..؟”
ونظرا للدمار الفظيع في البنى التحتية وتأثر كثير من قطاعات الاقتصاد السوري، وتحول مناطق بأكملها إلى مجرد ركام من الحجارة فقد قدرت الأمم المتحدة إن تكلفة إعادة إعمار البنية التحتية في سوريا تصل إلى 400 مليار دولار.
وبحسب التقرير النهائي للجنة، فإن الرقم يشمل حجم الدمار في سوريا فقط، ولا يشمل الخسائر البشرية، والمقصود بها الأشخاص الذين قتلوا خلال المعارك، والأشخاص الذين نزحوا وهجّروا من منازلهم.
وتشير بيانات رسمية إلى أن قطاعي النفط والكهرباء والصحة هم الأكثر تضررًا جراء الحرب في سوريا، إذ تقدر الخسائر في قطاع النفط بما يزيد على 65 مليار دولار، كما تزيد خسائر قطاع الكهرباء عن 800 مليار ليرة.

رأي معارض
وفي تصريح سابق له أكد الخبير الاقتصادي سمير العيطة، رئيس منتدى الاقتصاديين العرب ورئيس التحرير السابق للنشرة العربية في “لوموند دبلوماتيك”، على أنّ الرقم الذي يتمّ تداوله بين مئتين وأربعمئة مليار دولار عن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا “مُضخّم”.
وقال: “هذا رقم افتراضي لا علاقة له بتكلفة “إعادة الإعمار”. تكلفة إعادة الإعمار أقلّ من ذلك بكثير. والمزج بين الاثنين هدفه سياسيّ، “جَزَرَة وهميّة” تضعُها بعض الدول أمام السلطة و”المعارضة” على السواء للتأثير على الأحداث وعلى الحلّ.
وأضاف أن “رقماً بحوالي 50 مليار دولار أقرب للواقع. لكنّ السؤال بعد ذلك هو ما الذي تحتاجه سوريا تمويلاً من الخارج، استيراداً أو استثماراً، وما الذي يُمكن أن تموّله ذاتياً عبر إعادة إطلاق عجلتها الاقتصاديّة.
وفضّل الخبير الاقتصادي، استخدام مصطلحي “التعافي” و”الانتعاش” على “إعادة” الإعمار، ومرحلة ما بعد الحرب فيُمكن أن يتبعها حربٌ جديدة والتجارب العالميّة تشير إلى أنّ كثرة التمويل الخارجيّ يُفقِد الانتعاش ديناميّته لأنّه يكبح عودة الإنتاج الذاتي ويفرض هيمنة المموّلين على الاقتصاد”.
وتوقّع الخبير الاقتصادي أن “يبقى الوضع الحالي مستمرّاً حتّى لو توقّفت الأعمال العسكريّة أو تباطأت كما هو الأمر اليوم. فهناك أطراف تريد انفصال الشمال الشرقي وأخرى الشمال الغربي.
وشدّد العيطة على أنّه “لا معنى لانطلاق انتعاش في سوريا إذا بقيت العقوبات العامّة على سوريا والسوريين، وإذا بقي المصرف المركزيّ تحت العقوبات، وهو الذي يُفترَض أن يكون له الدور الأساسيّ في الانتعاش.

غموض الواقع وتطلع نحو المستقبل
وحول رؤيته لموضوع إعادة إعمار سوريا، وهل تأخرت الخطوة، أم لا زال الموضوع يخضع لظروف الحرب والأجندات الخارجية أيضا، خصوصا وهناك مدن ومناطق باتت آمنة وتحتاج لهذه الخطوة لعودة الناس واستقرارهم فيها، ومن يتحمل تكاليف إعادة الإعمار، ومتى يبدأ، يجيب الدكتور عقيل محفوظ الكاتب والأكاديمي بقوله: “ينطوي الحديثُ عن “إعادة الإعمار” في سوريا على مفارقتين: الأولى، هي أنه حديث عمّا بعد اللحظة الراهنة، وفي ما لم يأت بعد، وقبل أن تظهر مؤشرات حاسمة على نهاية قريبة للحرب؛ والثانية، هي أنه “تَطَلُّع” نحو المستقبل، رغم غموض الواقع وفقدان اليقين فيه.

يبدو الحديث عن “إعادة الإعمار” كما لو أنه تعبير إعلامي وسياسي، أكثر منه موضوع أو قضية فعلية مباشرة، في الخطاب على الأقل، ومن ثم فهو موضوع نزاع أو حرب أيضاً، بأكثر من بعد.
ثمة اصطفافان رئيسان بهذا الخصوص، الحكومة السورية وحلفائها، وهؤلاء ينظرون لإعادة الأعمار بوصفها مهمة عاجلة وضرورة، وأن مجرد الحديث عنها أو الشروع فيها هو مؤشر انتصار في الحرب، لكنهم يدركون أن المهمة تتطلب موارد كثيرة، ولابد من حل أو تسوية تفتح الأبواب أمامها. أما أعداء الحكومة السورية وأعداء حلفائها، فيرون أنها أمر لا يمكن السماح به، ويشترطون التوصل إلى حل أو تسوية، بل انهم بضعون عراقيل ويفرضون عقوبات من اجل منع أي اطراف من المشاركة فيه، يتعلق الأمر بعقوبات الولايات المتحدة، وعلى رأسها قانون قيصر، وعقوبات الاتحاد الأوروبي، وأكثر من ذلك، ان الولايات المتحدة تمارس ضغوطا كبيرة عل الدول العربية لمنعها من العودة الى دمشق، وبالطبع منعها من المشاركة في جهود إعادة الإعمار.

ويتابع د. محفوظ قائلا، تبدو إعادة الإعمار أحد خطوط مواجهة راهنة ومن المحتمل ان تستمر للفترة المقبلة، الحكومة السورية أمام تحديات كثيرة، قلة الموارد، ومنعها من الوصول الى مواردها، وبالطبع منع الأطراف في الخارج من المشاركة. سورية تعاني أو تواجه معركة من نوع مختلف، معركة “خنق اقتصادي” وان الحديث عن “إعادة الأعمار” هو فعل سياسي في العمق، يتمثلُ في جانبٍ منه قيمَ المقاومة والتحدي من جهة، والمبادرة والإقدام من جهة ثانية، والتدبير أو الفطنة من جهة ثالثة، هذا يذكر بـ”رَبَّات” نيتشه العليا، منها: “الأوان والفطنة والإقدام”، بمعنى: اغتنام الفرصة السانحة، بكل ما يتطلبه ذلك من نباهة ووعي ومعرفة وهِمَّة وجرأة في مقاربة الواقع، وفي التفكير بمقتضيات النهوض بالبلد والمُضي به إلى المستقبل.

مما يحتاجه السوريون اليوم، هو التفكير في وضع “خطة استجابة” نشطة وفعالة، لتحديات اللحظة الراهنة، امنيا وسياسيا، وبالطبع اجتماعيا واقتصاديا وقيميا. يحتاج السوريون إلى سياسات تُوقف: تدهوُرَ قيمة الحياة ومؤشراتها الأساسية.

محررة دون إعمار
هناك في البعيد يصطحب محمود عائلته إلى بيته المدمر في احد احياء مدينة دير الزور “450 كم عن دمشق”، ليحكي لأطفاله كثيرا من ذكرياتهم التي باتت مدفونة تحت أحجاره المتراكمة منذ ست سنوات، ولا يعرف كيف ومتى يعود إليه، ويردد بحسرة “البلد باتت محررة منذ أكثر من عامين ولكن لا نستطيع العودة، بيوتنا مدمرة، ولا نعرف كيف ومتى يتم إعادة تأهيل تلك الأحياء، لا أحد يعطينا جوابا شافيا، كلفة البناء عالية جدا بسبب غلاء المواد الأولية وأجور اليد العاملة لن نستطيع أن نبني بأنفسنا ما دمرته الحرب، كنا نذهب لبعض المنظمات الموجودة على الأرض هنا لتقديم المساعدة، ولكن هذا لا يكفي”.

أما خالد الحسن من أبناء ريف دمشق، فلا يبعد بيته الذي نزح منه، عن مكان اقامته الحالية حيث يستأجر بيتا متواضعا، اقل من 1كم، ولكنه لا يستطيع العودة إليه بسبب الخراب والدمار الذي طال أجزاء كثيرة منه، ويقول “ليتني استطيع العودة لكي أعيد بناءه، ولكن غياب المرافق العامة والكهرباء والمياه وركام البيوت حوله يمنعني من العودة، المكان لا زال موحشا، والايجار يكسر ظهورنا، فمتى تكون العودة والاستقرار لانعرف..!”

تلك هي حال كثير من السوريين الذين فقدوا بيوتهم ودمرتها آلة الحرب التي أتت على الأخضر واليابس دون هوادة، ولم يسلم من ضررها سوى القليل..وتبدو كلفة إعادة بناء غرفة متواضعة في أي مكان لا تقل عن سبعة ملايين ليرة سورية أي حوالي ثلاث الاف دولار وهو ما يكون خارج القدرة المادية لأي مواطن سوري عادي.
الانتظار بات سمة الباقيين على الأرض السورية، انتظار العودة لبيوتهم فهناك عائلات كثيرة من محافظة الرقة التي دمرتها طائرات التحالف، متفرقين في المحافظات السورية، وكذلك الحال بالنسبة لأهالي مدينة دير الزور وريفها، وكذلك مدن حلب وحمص، ولم تسلم باقي المدن وإن كان الضرر متفاوتا، إلا أن السمة الأساسية هي النزوح من الديار بسبب الدمار وعدم وجود مأوى لهم.
وقد وصل عدد النازحين السوريين داخليًا، حتى لحظة إعداد التقرير، إلى أكثر من 6.2 مليون نازح، كما تجاوز عدد اللاجئين السوريين الـ5.5 مليون لاجئ، وفقًا لـ”مفوضية اللاجئين” التابعة للأمم المتحدة، وهذه الأرقام تعادل نصف سكان سوريا أو أكثر.

مستلزمات لإعادة الإعمار
اقترحت دراسة نشرها مركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد” واعدها الباحث أحمد الحسن عدة مصادر وآليات لتمويل إعادة الإعمار في سوريا، داخلية وخارجية ومنها التركيز على السياستين المالية والنقدية لتأمين التمويل المحلي المطلوب، إلى جانب سياسات داعمة أخرى، منها العمل على زيادة الإيرادات، وتحسين عملية التحصيل، بوساطة استمرار العمل على مكافحة التهرب الضريبي، وزيادة التحصيل الضريبي، وفرض ضريبة على الثروة، لتحقيق مبدأ عدالة توزيع أعباء الدمار، ورفع معدلات الضريبة على الأرباح، وإعفاء ما يعاد توظيفه منها في عمليات الإنتاج الحقيقي والإسراع في إعادة استثمار حقول الغاز والنفط الممكنة، بموجب عقود مع شركات دولية، بما يوفر موارد إضافية للموازنة العامة للدولة، والإسراع في تشغيل الشركات الاقتصادية القابلة لإعادة الإنتاج مباشرة واستقرار سعر الصرف وغيرها من المقترحات.

وإعادة الإعمار برأي كثير من خبراء الاقتصاد يتطلب توفير المناخ الملائم للبدء بالعملية وتوفير مستلزمات العمل من مواد البناء كالاسمنت والحديد والطاقة الكهربائية والأليات اللازمة والكوادر البشرية وسبق أن كشف فارس الشهابي رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، عن حاجة سوريا لأكثر من 15 مليون طن سنوياً من الإسمنت، في مرحلة الإعمار المقبلة.
لجنة إعادة الاعمار في سوريا قامت بخطوات تعتبر بسيطة جدا واعتبرها الكثيرون لا تتناسب مع الطموح المطلوب بينما اعتبرها البعض خطوة على طريق البناء.

الدول الداعمة للإعمار
تأتي موسكو وإيران في طليعة الدول الداعمة للإعمار والتي تبدو الشريك الأساسي لهذه العملية نتيجة دورهما في إعادة التوازن ضمن الصراع الدائر في الحرب السورية، وقد ساهمت الدولتين في إعادة الحياة لكثير من المنشآت المتوقفة وجرت مفاوضات كثيرة بهذا الشأن مع الجانب السوري عبر زيارات وفود حكومية واقتصادية لسوريا خلال السنوات الفائتة.
وتبرز الصين كدولة مهيأة لدخول سوق الإعمار في سوريا إلى جانب دول أخرى تعتبرها سوريا صديقة، كما تم التصريح عنه رسميا في أكثر من مناسبة، بينما أفادت الأنباء الأخيرة عن مبادرات عربية للمساهمة في عملية إعادة الإعمار، ولكن في المقابل هناك سعي كبير من الدول الداعمة للإرهاب والتي لها اليد الطولى في فرض العقوبات الاقتصادية على سوريا للحد ما أمكن في منع موضوع إعادة إعمار سوريا، وعلى رأسها أمريكا ودول من الاتحاد الأوربي إلا ضمن اشتراطات سياسية واقتصادية كثيرة ومنها العمل بموجب القرار 2254، فيما تطالب موسكو ودمشق برفع العقوبات الاقتصادية أولا.

نسب الدمار
ونشر معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR) أطلسًا يبين مدى الدمار الذي لحق بالمحافظات والمدن سوريا خلال أعوام الحرب مستندا على تحليل صور الأقمار الصناعية، وشهدت محافظة حلب أكبر نسبة دمار في سوريا، بوجود 4773 مبنى مدمرًا كليًا، و14680 مبنى مدمرًا بشكل بالغ، و16269 مدمرًا بشكل جزئي، ليبلغ مجموع المباني المتضررة 35722.
وحدد البحث معايير لقياس نسبة الدمار، وهي اعتبار أن المبنى مدمر كليًا إن كان الضرر الملحق به بنسبة من 75 إلى 100%، في حين يعتبر مدمرًا بشكل بالغ إن كانت نسبة الضرر من 30 إلى 75%، ويكون مدمرًا إلى حد متوسط إن كانت نسبة الضرر من 5 وحتى 30%.

على جمر الانتظار
بعيدا عن أرقام وحسابات إعادة الإعمار وهي كثيرة ومعقدة، ومرتبطة بدول أخرى كما أسلفت، يبدو أن قدر السوريين بات سمته الانتظار والمرارة دائما، ومن خسر بيته ومعمله وأرضه، يعني خسارة شقاء عمره، وها هي سنوات عشرة تمضي ولا أمل يلوح، ولا توجد خطوات يمكن تتبعها من قبل الحكومة التي وعدت المتضررين ذات يوم وقدمت للبعض منهم ربما ربع ماتدمر لهم، والباقي بقي على قائمة الانتظار والمراجعات.

وحتى تبدأ خطوات الاعمار ذهب جيل وسيأتي جيل آخر، فمن سيشهد من بين هذه الأجيال عودة الاستقرار الى سوريا وعودتها للحياة من جديد، يبقى الخبر اليقين بيد الدول التي أشعلت نارالصراع، وهي من سيطفيها.
https://www.omandaily.om/العرب-والعالم/na/إعادة-الإعمار-في-سوريا-الواقع-والتجاذبات-الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى