رواية “بنات لحلوحة”.. 5 عقود من التاريخ السوري الحديث / شام مصطفى
“المنزول كان المدرسة التي تعلمنا فيها النظام وأنه لا بد لنا من شخص يدير أمورنا، تعلقنا بلحلوحة ليس بسبب إدارتها لأمورنا وفض النزاعات بيننا ولا لأنها تملك سلطة عجيبة تُخضعنا من دون تفكير، كان هناك شيء خفي لا أستطيع التعبير عنه بدقة، ثقة عمياء، إحساس بأمومة خفية، انجذاب لفرادة الشخصية، لا أعرف، الحقيقة أني لا أعرف ويكفيني أني أشعر بهِ”.
هذا مقتطف يطل بالقارئ على عوالم رواية “بنات لحلوحة” للروائية السورية ابتسام التريسي الصادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع بالأردن. وتمتد الرواية إلى 432 صفحة من القطع المتوسط. تسلط الضوء على قضية سوريات تم استغلالهن وتجنيدهن على مدار 4 عقود في العمل بائعات هوى، وفي تأدية مهام استخباراتية لصالح الأجهزة الأمنية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى قيام الثورة عام 2011.
وتأتي “بنات لحلوحة” العاشرة في الترتيب بين روايات هذه الأديبة بعد رواياتها “لعنة الكادميوم (2016)”، “لمار (2015)”، “مدن اليمام (2014)” وغيرها من الأعمال.
لحلوحة وبناتها
يتسع السرد في الرواية ليغطي زمنياً 5 عقود من التاريخ السوري الحديث، في حين يتعاقب على صناعة أحداثه شخوص من 3 أجيال مختلفة تتفاعل مع محيطها الاجتماعي، وتتأثر بالأحداث السياسية المعاصرة لها.
ورغم أن شخوص الجيل الأول تبدو أشبه بالعجينة الطرية التي يتلاعب بها صناع القرار ويشكلونها على هواهم، فإن شخوص الأجيال اللاحقة سرعان ما تصبح جزءا من السلطة السياسية، وتشارك في صناعة القرار.
يبدأ كل شيء ذلك الصباح الذي وقف فيه عامل التوصيل “عبد السلام أمين” أمام نافذة منزله الواقع في حي الحيرانة الحلبي يترقب خروج الكاتبة (فريدة الريدة) إلى الشرفة لتسقي زهورها كعادتها، ولما تأخرت قَصَدَ منزلها ليطمئن على سلامتها، فوجد باب المنزل مشرعاً، وعلى الحاسوب ملف فارغ معنون بـ “رواية” وعلى الكرسي تتكوم جثة فريدة وفي يدها المسترخية ورقة ممزقة.
ما حكاية عقابيل؟
نبش عامل التوصيل أوراق السيدة، ثم قلب قمامة منزلها فلم يجد شيئاً، وأخيراً انتهى به المطاف بنبش حاوية الحي ليجد رواية مطبوعة وجاهزة للنشر مكتوبة بقلم فريدة الريدة وعنوانها “عقابيل”.
تبدأ الحكاية تلك الليلة التي نجحت فيها المخابرات العامة في تجنيد الشابة لحلوحة الهاربة من زوجها حديثاً، لتنغمس الفتاة الثلاثينية بعدَ ذلك في عملها مخبرة تقضي لكبار المسؤولين الأمنيين في البلاد وَطرَهُم، وتخط التقارير الاستخبارية عن أبرز السياسيين والضباط والأجانب اللذين يقعون في شباك “بناتها” العاملات في “منزولها” (بيت الدعارة) الخاص.
ومع تعيين جاد الله مزين رئيساً للمخابرات العامة بالمنطقة الشمالية، يسارع العقيد النَهِمُ للسلطة إلى جمع النسوة اللاتي كن يعملن في بيع الهوى مع لحلوحة وتجنيدهن مجدداً في خدمة الأفرع الأمنية كـ “تكفير عن ذنوبهن” وبذلك تبدأ خدمة “بنات لحلوحة” للأفرع الأمنية بإخلاص على مدار 4 عقود جاهدنَ خلالها لكسب أكبر قدر من النفوذ وجعل أبنائهن في أعلى المناصب الحكومية والأمنية، وهو ما حدث لاحقاً بالفعل.
أما الريدة فلم تكن إلا ابنة إحدى تلك الأرحام الموبوءة، والراوية التي قررت مع بداية الثورة نشر قصتها والكشف عما في جعبتها من وثائق تُثبت تورط الأجهزة الأمنية بابتزاز النساء وتجنيدهن في أعمال قذرة واستخباراتية، إلى جانب مجموعة من الملفات السرية والحساسة المتعلقة بأنشطة النظام الحاكم وهو ما انتهى بها مقتولةً وسط شقتها في مدينة حلب.
نار الاحتقار والتعاطف
وما بينَ المتخيل ودلالته والواقع وسرديته نجحت التريسي في إماطة اللثام عن قضية حساسة في المجتمع، كما تمكنت من جعل القارئ بين ناري الاحتقار والتعاطف مع شخصياتها المركبة، فحيناً تغدو ضحايا لواقع بائس وأحياناً أحد أسباب بؤسه.
تقول التريسي للجزيرة نت “بنات لحلوحة لا يمتلكنَ الوعي، لقد أُجبرن على العمل في دور الدعارة وهن ما يزلنَ في سن الطفولة، ولم يتلقينَ أي تعليم وذلك كله نتيجة واقع اجتماعي متخلف، وبالتالي لن تفكر إحداهن إلا بخلاصها الفردي ضمن هذه الغابة، إن طمعهن بالمال والسلطة هو سير وفق خط طبيعي دفعهن إليه ماضيهن وما مورس عليهن من عنف وقمع وضغوطات أمنية”.
ومع تقدم السرد وسير الأحداث، يبدأ القارئ فهم تلك البنى المعقدة سيكولوجياً لشخصيات “بنات لحلوحة” ولعله يلتمسُ لهن عذراً بعد أن يعلم أن بدرية قد تعرضت للاعتداء الجنسي والتعنيف من قبل شريكها، وأن وهيبة كانت ضحية لاعتداء أحد الضباط رفيعي المستوى، وفضة بيعت في إحدى سهرات لعب القمار، في حين أن معظم هؤلاء تعرضن لامتحانات مشابهة قبل أن يقعن في فخ الدعارة.
انفجرن قهرا
يمكن قراءة “بنات لحلوحة” على مستويات عدة، فهي من جهة رواية عن حياة سياسية ميتة تُدار من قبل قلة أوليغارشية أمنية وعسكرية هيمنت على البلاد واستبدت بالعباد طوال 5 عقود، فهب الشعب عليها أخيراً، ومن جهة أخرى هي رواية عن نسوة تم اختزالهن بأجسادهن فانفجرنَ قهراً وحقداً على أنفسهنَ والعالم من حولهنَ، كما يمكن اعتبارها مجموعة من الدوال المتوارية خلف شخوص وأحداث وأزمنة تحيل إلى مدلولات عميقة ومتشابكة في قصة محبوكة بدقة.
وفي هذا المستوى الأخير من القراءة، يتضح لنا أن كل مسارٍ من مسارات الرواية حمل دلالته الخاصة، ففي مسار النسوة نرى تحولاً عظيماً طرأ عليهن، فمن مومسات إلى أمهات لكبار المسؤولين بالدولة، وعن ذلك التحول تقول التريسي “يمكن اعتبار هذا التحول محاكاة لواقع الطبقة السياسية التي أدارت سوريا 5 عقود، النخب السياسية في عهد البعث كانت تحمل صفات مشابهة لشخصيات الرواية”.
وتضيف “ليس من الضروري أن تكون أُمهات هؤلاء بائعات هوى، لكن الأخلاقيات التي اتصفت بها معظم الشخصيات الحاكمة في نظام البعث لا تتحلى بالأخلاق، امتهنت القمع والفساد، وبعضها امتهن القتل، بدءاً من رأس الدولة حتى أصغر مخبر فيها. فإن كان العم في دولة البعث يخبر عن ابن أخيه ليُعتَقَل وقد يموت تحت التعذيب، فأي فساد أخلاقي ذاك الذي وصلت إليه!”.
أما في مسار شخصيات الجيل الثاني من الذكور، وهم أبناء “بنات لحلوحة” فنراهم يواجهون مصيراً مشتركاً حيث يقضون بانفجار مُدبر من قبل الأجهزة الأمنية، فيموت ابن فضة التي كانت عشيقة أحد الضباط المسؤولين عن قتل والدها، ويموت ابن وهيبة العايقة وابن وسيلة.
وعن دلالة هذا الموت الجماعي، تحكي التريسي “أستطيع القول إنه نبوءة لنهاية حتمية للفساد والقمع المتمثل في النظام والذي يتمناه كل سوري حر. نحن الآن نعيش مآلات 2011، وبغض النظر عن حالة السحق التي تعرض لها الشعب من قبل النظام أولاً، والدول الإقليمية ثانياً، والمنظومة العالمية ثالثاً”.
وتكمل “وبغض النظر عن هيمنة النظام وأعوانه، فإننا نستطيع القول إن الثورة السورية خلخلت بنية الاستبداد والفساد، وقضت عليها تماماً. وكل الجهود السياسية العالمية اليوم تصب في إعادة تأهيله المستحيل. وهذا الموت الجماعي الذي حدث في الواقع الروائي نتيجة حتمية للموت الجماعي والمجازر التي حصلت في الواقع المعيش”.
تأليف سيمفونية
زخر الخطاب الروائي في “بنات لحلوحة” بالتنويعات الأسلوبية، وتعدد زوايا النظر والأصوات المختلفة للشخوص والرواة مما جعله غنياً وموضوعياً، ومتوائماً مع طبيعة السرد المسهب. فمرة يكون الحكي على لسان فريدة ومرة على لسان عبد السلام، وفي أخرى على لسان إحدى بنات لحلوحة الأخريات.
أما على صعيد الشكل الخطابي، فحيناً نجدهُ سرداً ذاتياً لفريدة وأحياناً أخرى يكون أقرب لوثيقة تقريرية توثق ما جرى، كما حضرت المذكرة كشكل مميز أسهم في تفسير بعض الأحداث التي تم القفز عنها أثناء السرد.
تقول التريسي عن أسلوبها ذاك والكتابة الروائية عموماً “أستطيع تشبيه الكتابة الروائية بالتأليف الموسيقي، فالرواية أشبه بسيمفونية تتشارك فيها جميع الآلات الموسيقية لتنتج في المحصلة حالة موسيقية تعبيرية تمنح المستمع تلك المتعة التي تسمو بمشاعره الإنسانية”.
ومن ناحية ثانية، من الطبيعي أن يتنوع السرد بتنوع طبائع الشخصيات والأحداث مما يفرض على الكاتب الموضوعي أن يبتعد قليلاً أو كثيراً ليسمح لكل شخصية أن تقدم نفسها بنفسها، صحيحٌ أنها في مخيلته لكنها تجبره أحياناً على الانقياد لها. “أعتقد أن ذلك بالضبط ما يبعد الملل عن القارئ وينقله من إيقاع إلى آخر”.
وتنهي التريسي حديثها للجزيرة نت بالقول إن ما جرى في “بنات لحلوحة” ليسَ إلا قراءةً للحدث السوري من مستوى آخر، وإن العنف الذي يدور في خلفية الأحداث ليس إلا طبيعةً للدول التي تتحكم فيها الأنظمة الاستبدادية ويسود فيها الفساد فتكفيه شرارة صغيرة ليشتعل في جوانب المجتمع.
——-
/ عن موقع “الجزيرة.نت”