بناء عقد اجتماعي سوري جديد.. في خطابات الهويّة السورية/ عمار عكاش
كل هذه الخطابات حول بناء الذات ورؤية الآخر من المهم فهمها لبناء عقد اجتماعي جديد في سوريا، وأعتقد أن حسن النية الذي يدفع البعض للقول طول عمرنا كنا عايشين مع بعض لا يفيد كثيراً في حل مشاكل سوريا، بل يفيد في تعميتها.
أسهمت الماركسيّة دون شكّ في تحليل الأيديولوجيا عبر الكثير من مفكريها لكن إحدى المشكلات التي خلقها النمط التبسيطي والشعبوي من الماركسيّة هو نظرتها إلى أي فكرة من حيث كونها وعيا حقيقيا أم زائفا، والترجمة الفعلية لهذه الفكرة كانت تعني إهمال تحليل خطاب الهوية الذي تبنيه الجماعة عن نفسها والاكتفاء بالحديث عن وعي زائف تخلقه الطبقة البورجوازية لتقسيم الناس إلى جماعات وهويات بغرض إلهائهم عن الصراع الأساسي وهو الصراع الطبقي والصراع على المستوى الوطني مع الامبريالية.
في الحالة السورية التي دأب النظام السوري وحتى معارضته على الاحتفاء بفسيفسائيّتها، من المهم جداً النظر في الخطاب الذي تبنيه الذات الجماعية عن نفسها وعن الآخر لفهم معضلات التعايش وجروح الهويّة السورية الافتراضية.
لا يهم هنا تحليل هذا الخطاب وفقاً لمعايير الصواب والخطأ والحقائق التاريخية، بقدر ما يهمّ فهم ما يعتقده الناس عن أنفسهم وعن الآخرين، أما الهروب للحديث كما يحدث الآن مع قسم كبير من المعارضة السورية ونخبها وناشطيها للحديث عن فئات لا تتوافق مع الثورة أو وحدة الأراضي السورية؛ فهو امتداد لتقليد تتبعه كلّ الأنظمة الشمولية في بناء فكرة توحد الناس وفرضها على وسائل الإعلام والمناهج الدراسية، ومعاقبة كل من يطرح فكرة مخالفة.
في حالة تحول الثورة السورية إلى العسكرة أزعم أن خطاب الهوية العربية-السنية هو الخطاب الضمني الذي هيمن، وعلى أساسه تعتبر كل الخطابات الأخرى إما خطابات ناجمة عن اضطهاد النظام السوري للأقليّات وخلقه الانقسامات الطائفية أو عن جهات خارجية تحرض على تقسيم سوريا (من الطريف أن تتحدث المعارضة السورية عن دعم خارجي لجهة مشبوهة!) أو حتى نزعة أقلويّة حاقدة على الأكثرية، وفي حال حسن النية يلجأ أصحاب هذا الخطاب من مثقفين وسياسيين إلى وصف الأقليات القومية والدينية بمصطلحات كالأخوة والسوريين، والطريف هنا (أن الجميع سوريّون بطبيعة الحال)، مثل هذا الخطاب لا يفيد في فهم مخاوف الناس ومظلوميّاتهم وبالتالي لا يؤسس لتعايش سلمي وعقد اجتماعي جديد يطوي صفحة البعث الى الأبد.
والأهم أن هذا الخطاب لا يلحظ حقائق الاجتماع السوري وتاريخه وتشكيل الدولة السورية الحديثة، لا يحتاج المرء إلى تحليل ثاقب كي يدرك أن الهويّات الأوضح في سوريا هي الهويات الطائفية والإثنيّة والمناطقيّة، وهي لا توجد صافية بل تتمازج مع مجموعة انتماءات أخرى، تختلف حسب المستوى التعليمي والعمر، والبيئة (ريف/ حضر)، ووجود الإنسان في مناطق مختلطة طائفياً أم أقرب إلى اللون الواحد، وحسب تجربة كل فرد وعوامل أخرى لا سبيل لتعدادها هنا.
ومثل أي بناء للهوية في أي رقعة من العالم، يتشكّل بناء الهوية في سوريا من خلال ثنائية نحن وهم (الآخر)، فما يجمعني مع سواي يشكّل هويتي لكن ما أعتقد أنه يميزني عنه يكون أحياناً أكثر أهمية في بناء الهويات.
في الحالة السورية يبدو التقسيم الطائفي ثم الإثني الأوضح في بناء مظلومية وهوية تميز الذات عن الآخر المضاد بين العلويين والسنة، مع ملاحظة أن العلويين أكثر توحّداً في بناء هويّة مضادة للهوية السنيّة، بينما السنة مثل أغلب أبناء الأكثريات يتنوعون أكثر في رؤيتهم لانتمائهم الطائفي وإن كان الاستقطاب قد زاد بحدّة في العقد الأخير.
التقسيم الآخر الواضح إثنيّاً هو الكردي والعربي، فالنظرة الأكثر شيوعاً في الخطاب العربي هي النظر إلى الكردي كانفصالي أو شخص لا يحترم الحدود الوطنيّة السوريّة ويغمز البعض بأن الكرد أصلاً وافدون وأن العرب السوريين كانوا كريمين في قبولهم في سوريا والكرد جاحدون لوطن استقبلهم، كما أن هناك خطاباً آخر يميل للقول لا فرق بيننا كعرب وكرد ولكن دون الإقرار بوجود فروق بشرية طبيعية بل بمعنى أن الكرد يجب أن يقبلوا بما هو موجود ويمتثلوا إليه (لا يرى هؤلاء الكرد كقومية أخرى بل تزعجهم إشارات الكرد إلى قوميتهم إنها مساواة على نموذج الزي الماوتسي الأزرق الموحّد)، بالمقابل بنى عدد كبير من الكرد خطاباً يرى العرب أناساً عنصريين منكرين لحقوق الأقليات والشعوب الأخرى، ويغمز بعضهم بأن العرب بدو أتوا من الجزيرة العربية أصلاً، ومؤخراً شاع بين بعضهم خطاب يساوي بين العربي والتطرف الديني.
——–
/ عن موقع “الأيام السورية”