دكتاتورية العسكر.. حكم العسكر/ العميد فايز عمرو
توطئـة:
إن بناء عمل صادق يتعلق بنقل الأحداث والوقائع التاريخية، يستوجب علينا الالتزام بأخلاقيات التأريخ في الأمانة والموضوعية لكي نضمن الحق والعدل وعدم الإنحياز لأهوائنا الشخصية ويفرض علينا أن نزيل من يومياتنا ودفاترنا التهم والادعاءات التي تستند إلى أحكام مسبقة جاهزة تتحامل على هذا الطرف أو ذاك، الشيء المهم بالنسبة الينا هو الوصول الى الحقيقة التاريخية بالطرق الصحيحة.
يجب دراسة ومراجعة الظواهر المزعجة والتي لا تتوافق مع الآراء الخاطئة والاحكام المسبقة بدلاً من تركها جانبا وتجاهلها واتباع الطرق الأسهل للنقد والاتهام. وفي حال لم تتضمن الدراسة التاريخية مرحلة سلطة البعث والعائلة من خلال تناول دور كافة العوامل الداخلية والخارجية في تثبيت سلطة البعث ودكتاتورية العائلة، لا يمكن أن يكون عملا تاريخيا صحيحا، ولا يمكن أن يوصلنا استنباطات واستنتاجات صحيحة.
ما من شك، بأن رجال السياسة الذين شهدوا أو شاركوا في الحكم أبان تلك المرحلة أيضا، كالمؤرخين الذين عاصروها، يعتبرون مسؤولين عن اكتشاف الحقيقة. وإذا تناولوا موضوعا ما حول الاحداث والوقائع التاريخية، فهم يتحملون أيضا مهام ومسؤولية المؤرخين، عليهم أن ينظروا بوضوح ورؤية شاملة، الى الوثائق التاريخية (كافة الوثائق التاريخية) وينبغي أن لا يتقبلوا صحة شيء، لكونه موروثا عن أبائهم. يجب ألاّ يقبلوا أي شيء بناءً على أحكامهم المسبقة. إذا أراد الساسة أن يتحدثوا حول التاريخ فإنهم بالتأكيد ملزمون باتباع القواعد المنهجية الخاصة بكتابة التاريخ. وإلا فلن تعكس مواقفهم الحقيقة.
بالعودة الى ديباجة **دكتاتورية العسكر، أو حكم العسكر** وقبل الدخول في التفاصيل الدقيقة لابد من الوقوف أولا عند المفهوم الشامل لها، وتحديد مجمل الظروف والعوامل الفاعلة في ديمومتها لا سيما في المرحلة التاريخية التي تميزت بسيطرة دكتاتورية البعث ومن ثم دكتاتورية الأسد الأب والإبن على السلطة التي ابتليت بها سورية، للوصول إلى معرفة الهوية الأساسية لها وعلاقتها بالمؤسسة العسكرية.
مقـــــــــدمـــــــــــــــة:
على الرغم من توفر وكثرة التفصيلات المتعلقة بحقبة دكتاتورية البعث ومن ثم الأب والأبن (سنذكرها لاحقا)، فإن تأريخ وتقييم تلك المرحلة هو موضع خلاف بين النخب الفكرية وأصحاب الرأي: منهم من يتناول تلك الحقبة باعتبارها مرحلة كفاح وطني، مقاومة وممانعة ويبررون جرائم النظام. ومنهم من يتناولها من منظور سيطرة المؤسسة العسكرية على السلطة وممارستها للدكتاتورية المطلقة دون أن يبذلوا أي جهد ضروري للوصول الى فهم أعمق للوقائع ومجرياتها. وقسم أخر يتناول تلك الحقبة من منظور أشمل من خلال دراسة العوامل الداخلية والخارجية ومجمل الظروف التي ساهمت في وصول البعث والعائلة الى السلطة.
غير أن الآراء جميعها تتقاطع بتبني أحكام مسبقة تتلخص بمقولة سيطرة المؤسسة العسكرية على السلطة وممارستها للدكتاتورية العسكرية، بمعنى أكثر دقة تجريم المؤسسة العسكرية بتهمة الدكتاتورية والجرائم المرتكبة في تلك المرحلة.
ويجب أن نعترف أيضا بأن رجال السياسة لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة ومراجعة تلك المرحلة برمتها ويتحدثون براحة أيضا عن أحكامهم المسبقة لتجريم المؤسسة العسكرية وتبرئة باقي المؤسسات لا سيما السلطة السياسية من أجل شيطنة المؤسسة العسكرية وتحقيق منافع سياسية. على الرغم من أن قسما كبيرا من هؤلاء كانوا جزءا لا يتجزأ من الدكتاتورية وممارساتها القمعية ضد عامة الشعب.
بطبيعة الحال نحن أمام مشكلة بالمعنى المنهجي للكلمة لأن السؤال الذي نطرحه: كيف تشكلت الدكتاتورية يفرض علينا اعتماد مسار البحث التاريخي الموضوعي.
كما أننا نواجه مشكلة بالمعنى المعرفي لأن الواقع الذي عشناه يتعارض مع الطروحات الفكرية والسياسية المخزنة في مخيلات الذين يتناولون مرحلة الدكتاتورية الفئوية، لأن الصورة التاريخية التي تعكسها تلك المرحلة متعددة الأوجه والركائز ولم تكن محصورة بالمؤسسة العسكرية فقط، وقد تسعفنا الذاكرة الوطنية من قلب المؤسسة العسكرية الى القول بأن هذه المؤسسة كانت من أضعف العوامل المؤثرة في ديمومة السلطة الدكتاتورية طوال عدة عقود. عند هذا الحد دعونا نسرد الحكاية.
مفهوم الدكتاتورية العسكرية …. مالها وما عليها ….
الدكتاتورية العسكرية بمفهومها العام تعني سيطرة السلطة العسكرية المطلقة على جميع مناحي الحياة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، التربوية …. الخ في الدولة والمجتمع.
في هذا السياق يواجهنا تساؤل مشروع يطرحه العاملون في المؤسسة العسكرية: هل ينطبق هذا المفهوم في الحالة السورية على المؤسسة العسكرية لتتهم دوما بممارسة الدكتاتورية؟ بمعنى أدق هل كانت المؤسسة العسكرية بصفتها المهنية في سورية هي المسيطرة فعليا على الدولة والمجتمع؟
بغية الإجابة على هذا التساؤل دون أن تشغل مخيلتنا أحكام مسبقة، واتهامات يسهل على المدعي سردها كما يشاء دون رقيب أو حسيب وبدون أدلة دامغة، دعونا نقف وقفة متأنية عند مجموعة من الركائز الأساسية التي بنيت عليها السلطة الدكتاتورية الفريدة في سماتها بعد وصول حزب البعث الفئوي الى السلطة وخاصة بعد انقلاب 1970م من خلال طرح العديد من التساؤلات المشروعة:
– هل كان اختيار شخص حافظ الأسد حتى قبل وصوله الى السلطة وتقديم كافة أشكال الدعم المادي والمعنوي له وصولا الى انقلاب 1970م من قبل قوى أجنبية فاعلة لصفته العسكرية فقط؟ أم ماذا؟ وما هي أبعاد وخلفيات توريث الابن (طبيب العيون) لترؤس إحدى أعتى الدكتاتوريات في العالم بطريقة سلسة لم تشهدها الأنظمة الملكية؟
– ما هو موقع ودور شبكة الاجهزة الأمنية الأربع المعقدة والمتداخلة هرميا وأفقيا والمرتبطة مباشرة مع رأس النظام، والتي تأسست بإشراف مؤسسات وشخصيات أجنبية غير معروفة حتى الأن من قبل المواطن السوري. كما كانت تتمتع تلك الأجهزة بكافة أنواع الحصانات وهي فوق القانون والدستور والعرف ولا تخضع للمساءلة إلا من قبل شخص الدكتاتور الأوحد، أما النفقات المالية الخاصة بها لم تكن خاضعة للرقابة وغير معروفة المصدر حتى من قبل رئيس الحكومة السورية. بمعنى أوضح كانت تلك الأجهزة وصية على الدولة والمجتمع ومتسلطة على الجيش والقوات المسلحة، ويمكن القول بأن مجمل أنشطتها الاستخباراتية كانت موجهة لمراقبة وضبط عمل القيادات العسكرية على كافة المستويات.
– ما هو موقع ودور وزارة النفط والثروة المعدنية طوال خمسة عقود من حكم العائلة وهي مجرد شاهد زور على مصادرة جميع عائدات النفط وتجييرها على حساب حافظ الأسد وأبنائه، في الوقت الذي كان ولا زال الشعب السوري برمته يعيش في حالة من الفقر والعوز والحرمان، وتنتشر غالبية شبابه للبحث عن مصدر للرزق في جميع أنحاء العالم.
– ما هو موقع ودور الجيش السري الذي يضم عشرات الألاف من المخبرين السريين غير العاملين في الدولة والمرتبطين مع الأجهزة الأمنية لتأمين السيطرة المعلوماتية الشاملة من أجل ضبط جميع مناحي الحياة بدءا من مؤسسات الدولة وصولا الى الأسر في أقاصي الريف؟
– ما هو موقع ودور منتسبي ما يسمى بالجيش الشعبي وعناصر الدفاع المدني الموزعين في مختلف المحافظات والمناطق والمرتبطين بالأجهزة الأمنية الأربع إضافة الى التواصل الخاص مع جهاز أمن الحرس الجمهوري لاسيما في السنوات الأخيرة من حكم الدكتاتور الأب. مع بيان بأن الكتلة الرئيسية لها كانت تتموضع في العاصمة دمشق وهي من القوى الأساسية المكلفة بالدفاع عن العاصمة (القصر الجمهوري)؟ مع بيان بأن معظم قادتها في جميع المحافظات من طائفة الدكتاتور.
– ما هو موقع ودور الميليشيات شبه العسكرية المرتبطة بالشعب الحزبية وهي في معظمها كتائب مسلحة ومدربة ومحددة المهام ومتواجدة في جميع المحافظات والمناطق وترتبط أيضا مع الأجهزة الأمنية الأربع؟
– ما هو موقع ودور ما يطلق عليها ذورا وبهتانا المنظمات الشعبية على سبيل المثال (اتحاد شبيبة الثورة، الاتحاد العام لطلبة الجامعات، الاتحاد العام للعمال والفلاحين) الذي تجاوز تعدادها تعداد الجيش والقوات المسلحة وتم تربيتها على عقيدة البعث وتقديس شخص قائد مسيرة الحزب والشعب، وهي مدربة على السلاح أيضا وتشرف عليها الأجهزة الأمنية مباشرة؟
– ما هو موقع ودور الميليشيات الطائفية المحلية التي تضم القادرين على حمل السلاح من أبناء طائفة الدكتاتور، حيث تم تسليحها سرا من قبل الأجهزة الأمنية في أعقاب أحداث الثمانينات الدامية ومجازر حماة وحلب وجسر الشغور؟
– ما هو موقع ودور دار الإفتاء ووزارة الأوقاف وأرباب الشعائر الدينية وجيش الائمة والخطباء المنتسبين لحزب البعث والمعينين بموافقة ومعرفة الأجهزة الأمنية والمكلفين بإضفاء صفة القدسية لشخص الدكتاتور وتقديم تقارير دورية عن مرتادي الجوامع لا سيما الضباط منهم؟
– ما هو موقع ودور وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم التين حولتا الجامعات والمدارس الى قلاع أمنية محصنة لصالح الدكتاتورية، والى بنوك معلومات مجانية لصالح الاجهزة الأمنية التي باتت تعرف كل شاردة وواردة عن الطلبة حتى في المدارس الابتدائية، وأصبحت المعلومات التي تحصل عليه الأجهزة الأمنية محددة لمستقبل الطلاب بغض النظر عن الدرجات التي يحصلون عليها في الامتحانات النهائية؟
– ما هو دور وموقع وزارة الداخلية التي حولت جميع المؤسسات التابعة لها الى حصون من النميمة والفساد والمحسوبية والتسلط على عامة الشعب، وأصبحت قوى الأمن الداخلي أيضا عبارة عن كابوس مرعب في حياة المواطنين بحكم علاقاتهم المباشرة معها؟
– ما هو دور وموقع المال العربي السخي الذي كان يغدق بلا حدود لرأس النظام على شكل هبات ومساعدات نقدية بمئات الملايين من الدولارات سنويا وعلى مدى عقود تحت يافطة الصراع العربي الإسرائيلي، في الوقت الذي كانت عائدات النفط السوري كما أسلفنا تودع على حساب عائلة الدكتاتور، كما هو معروف بأن بعضا من تلك الهبات والمساعدات استخدمت من أجل تأسيس وحدات ما يسمى بسرايا الدفاع وسرايا الصراع وفيما بعد الحرس الجمهوري وهي وحدات طائفية البنية والهدف ولم تكن تابعة لقيادة الجيش والقوات المسلحة، وكانت الأذرع القوية الضاربة من حيث نوعية التسليح والمهام بيد الدكتاتور للسيطرة على البلد وقتل وتهجير كل من يعارضه؟
– ما هو موقع ودور السلطة القضائية والمؤسسات والمحاكم المدنية والمكاتب التابعة لها؟ تلك المحاكم تحولت الى مقار أمنية تنظر الى مجمل القضايا الخلافية الخاصة بالمواطنين بعيون قادة الأجهزة الأمنية أو ممثليها المعينين لمراقبة العملية القضائية في جميع المحاكم، حتى أصبح القضاء عبارة عن سيف مسلط على رقاب الفقراء والمساكين وملاذا أمنا لأصحاب النفوذ والأثرياء من رجال السلطة. بمعنى أوضح أصبحت السلطة القضائية مدرسة للفساد والمحسوبية ومنبعا للظلم والقهر والاستعباد وملاذا أمنا للمجرمين والقتلة، ولقد تجلى ذلك بوضوح مع البدايات الأولى للانتفاضة الشعبية المباركة؟
– ما هو موقع ودور السلك الدبلوماسي الخارجي المرتبط كليا مع الأجهزة الأمنية، هل كان يمثل سورية أم أنه كان يمثل رأس النظام ويقود حملة التمجيد بشخصه وعائلته ويهيئ الطريق للتوريث ثم التوريث؟ بالتأكيد الحديث يطول حول هذا السلك.
– مهما يكن يبقى السؤال الحاضر الغائب في ذاكرة من يبحث عن الحقيقة في واحدة من أخطر المراحل التاريخية التي تستحق من المؤرخين مزيداً من الدراسة والبحث والتدقيق هو التالي:
– ما هو موقع ودور الفساد العام الذي انتشر على نحو مخطط ومدروس وبشكل مرعب بين عامة الشعب حتى أصبحت الثقافة الشعبية السائدة تستهجن الضابط أو الموظف رفيع المستوى أو القاضي أو المحامي أو المهندس المخلص والشريف الذي لا يملك فيلا أو عربة فاخرة أو حسابا بنكيا، الى حد بات موضع احتقار وازدراء من قبل أقاربه وجيرانه في الحي وأحيانا من ذويه، بمعنى أدق أصبح الضابط الوطني المخلص والشريف النزيه منبوذا من عامة الشعب وهذه حقيقة لا يستطيع أن ينكرها كائن من كان.
بالتأكيد الأسئلة وهي كثيرة غير أننا تطرقنا الى الأهم منها لكشف خلفية استخدام ديباجة دكتاتورية العسكر واتهام المؤسسة العسكرية بممارسة السلطة القمعية.
بعد سرد هذه الحقائق التاريخية الغضة والراهنة المنقولة من الحالة السائدة في سورية منذ انقلاب البعث عام 1963م، هل بقي لهاجس الخوف مما يسمى بدكتاتورية العسكر أو حكم العسكر أي معنى، وهل بقي لاتهام المؤسسة العسكرية بممارسة الدكتاتورية أية مرجعية مشروعة، وهل كان العسكر هم من يحكمون سورية ويطمحون اليوم أيضا بالوصول الى السلطة؟ نترك الإجابة على هذه التساؤلات للساسة الوطنيين الشرفاء خصوصا ولأخوتنا المدنيين عموما.
في جميع الأحوال، لم يكن هدفنا في أي وقت من الاوقات التقليل من حجم معاناة الشعب السوري من السلطة الدكتاتورية المتوحشة والهمجية من خلا ل اللجوء الى المقارنة النسبية بين مسؤولية هذه المؤسسة أو تلك، بيد أن العدالة تقتضي إذا أردنا أن نحمل المؤسسة العسكرية مسؤولية فظائع الدكتاتورية، يجب أن نشير وبنفس الوقت الى مسؤولية باقي مؤسسات الدولة التي تحالفت مع الشبكة الأمنية العنكبوتية الى درجة أصبحت فيها المؤسسة العسكرية ضحية مباشرة للدكتاتورية، حيث كان الشغل الشاغل لرأس النظام واجهزته الأمنية هو السيطرة المطلقة على الجيش والقوات المسلحة وتحولت المؤسسة العسكرية الى مؤسسة مقهورة لا تمتلك أية صلاحيات تذكر، هكذا انتشرت كما خطط لها مجموعة من العلل والأمراض لا سيما في صفوف الضباط وصف الضباط كنتيجة طبيعية لظروفهم القاهرة المادية والمعنوية.
ثم إننا نذكر أهلنا الأعزاء بآراء الكثير من رجال الدين الذين يستحقون اللقب حول جواز دفع الزكاة للعاملين في الجيش والقوات المسلحة السورية نظرا لسوء أوضاعهم المادية.
لذلك فإن طرح وتبني مقولة دكتاتورية العسكر منطلقين من اتهامات سياسية الطابع لا تستند الى مراجعة تاريخية محايدة أو صحيحة، والسعي للوصول الى استنتاجات غير منطقية من أجل تحقيق مكاسب سياسية لصالح طرف وإقصاء المؤسسة العسكرية عن أداء واجباتها في الظروف التاريخية الاستثنائية ما هي إلا تصرفات تتناقض مع ابسط الحقائق التاريخية الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
من المؤكد بأن العسكريين الوطنيين يشاطرون من يشاركهم الهم الوطني والبعد الإنساني لقضايا الشعوب المقهورة هواجسهم البادية منها والخفية من الأنظمة الديكتاتورية وبخاصة تلك التي تحمل طابعا عسكريا، ولما لا فهموم العسكر جزء من الهم الوطني وعلى عاتقهم حماية الوطن والمواطن والحفاظ على السيادة الوطنية بكل مضامينها، وتمكين السلطات المنتخبة من أداء واجباتها في مناخ يسوده الأمن والاستقرار.
المؤسسة العسكرية في الدول المتطورة:
إن مقولة (ديكتاتورية العسكر) لم تشغل ولو حيزا بسيطا من أدبيات النخب الفكرية في الأمم المتطورة التي كانت تحكمها ديكتاتوريات مدنية، حيث تخطت تلك الأمم مسألة إقامة الدولة الوطنية الى مرحلة الاستقرار الوطني وبنت مؤسساتها العسكرية والأمنية على أسس وطنية احترافية مهنية شفافة، وكانت تلك المؤسسات ولازالت رمزا للسيادة الوطنية. حتى أصبح تداول أسم جيش إحدى هذه الدول أو مجرد ذكر جهاز أمنها الوطني يرادفه الأمن والأمان والاستقرار والشعور بالفخر والعزة الوطنية.
من المفيد أن نضع أمام القارئ صورة اجمالية تعكس علاقة جيوش البلدان المتطورة مع السلطة السياسية ومع مختلف مؤسسات الدولة الأخرى.
ألا يحتل منتسبوا تلك الجيوش موقعا معنويا وماديا متقدما في مجتمعاتهم؟ أليسوا موضع تقدير واحترام من قبل شعوبهم؟ لماذا لا تتدخل قيادات تلك الجيوش المتطورة في الشأن السياسي لتلك الدول؟
من المؤكد بأن الإجابة المختصرة جدا على هذه التساؤلات تنبع من مساهمة ونجاح البورجوازيات الوطنية في تأسيس دول ذات سيادة كاملة وسن الدساتير الوطنية الدائمة وقوننة الحياة برمتها والمساهمة في بناء الجيوش الوطنية المحترفة وتنظيم العلاقة بينها وبين باقي مؤسسات الدولة المدنية ومشاركة السلطات السياسية في صياغة العقيدة العسكرية لتلك الجيوش. مما لا شك فيه بأن تلك الجيوش اليوم هي مصدر للاستقرار والأمن والسلم الأهلي في جميع الدول الرئيسية وهي عامل استقرار وتوازن في المعادلات الدولية، ويمكننا الجزم بأن عظمة الأمة تستمد من عظمة وقدرة جيوشها.
موقف السلطة السياسية من المؤسسة العسكرية:
في الحقيقة عندما نطرح السؤال ليس لأننا نملك الإجابة أو نطمح في الحصول على الإجابة اليه كما نرغب، بل لأن السؤال قائم بحد ذاته سواء طرحناه أم لم نطرحه، وغايتنا هنا في هذا الباب هو أن نحدد مسؤولية كل أطراف المعادلة الوطنية.
بإطلالة سريعة على الحقبة التي تلت فجر الاستقلال والانقلابات التي شهدتها تلك المرحلة يمكننا القول أن معظم الحكومات التي وصلت الى السلطة آنذاك كانت تشكل بأوامر معظمها لفظية تصدر من سفارات الدول المؤثرة في الشأن السوري، كما أن البورجوازية المحلية التي مارست دور الوسيط والمرابع كانت تتحالف مع بعض القيادات العسكرية المرتبطة بالخارج والمحسوبة ذورا وبهتانا على المؤسسة العسكرية السورية. بمعنى أوضح لم تبذل السلطات السياسية التي تعاقبت على حكم سورية أية جهود حقيقية لبناء دولة مواطنة ذات سيادة، ولم تعر بناء القوات المسلحة الأهمية التي تستحق.
بمراجعة سريعة لمراحل بناء المؤسستين العسكرية والأمنية يمكننا القول بأنها كانت مصابة بالعقم الوطني والطائفية والطبقية والعائلية والمحسوبية منذ البدايات الأولى.
خاتمــــــــــــــــــــــة:
إننا ندرك تماما بأن مضمون هذه السردية يطرح أسئلة جديدة أكثر مما يقدم أجوبة على أسئلة مضى عليها الزمن، والحقيقة إن هذه السردية لا تطمح الى أبعد من تحديد الأسئلة في موضوع دكتاتورية العسكر نظرا لحساسية المرحلة وكثرة الآراء الحائرة التي تبحث عن خلاصة الحقيقة.
أستاذ التاريخ والخبير بتاريخ الشرق الأوسط الأمريكي جاستن مكارثي في كتابه (الموت أو النفي) يقدم عظة للمؤرخين قائلا:
(ينبغي على المؤرخين أن يحبوا الحقيقة، كما ان العمل على كتابة الحقيقة هو مهمة المؤرخ. قبل أن يكتب المؤرخون يجب أن يطّلعوا على كل المصادر المتعلقة بالكتابة، وأن يعيدوا النظر كليا بأحكامهم المسبقة، يجب أن يفعلوا ما بوسعهم لكيلا تؤثر هذه الاحكام المسبقة على الحقيقة، حينئذ فقط ينبغي عليهم أن يكتبوا التاريخ. يجب أن تكون قاعدة المؤرخين على النحو التالي: تناول أي موضوع من كل جوانبه، ضع احكامك المسبقة جانبا. عندئذ فقط يمكن أن تتطلع الى اكتشاف الحقيقة).
لهذا ينبغي أن يتناول المؤرخون مرحلة دكتاتورية البعث وعائلة الأسد الأب والأبن من كل جوانبها، يجب أن يضعوا جانبا أحكامهم المسبقة بإلصاق تهمة الدكتاتورية بالمؤسسة العسكرية وتحميلها مسؤولية المصائب والكوارث التي المت ببلدنا.
إذا لم تتضمن الدراسة كافة العوامل الفاعلة والمؤثرة (الداخلية والخارجية) في تلك الحقبة من تاريخ سورية فسوف تبقى مقولة دكتاتورية العسكر عبارة عن تهمة سياسية الابعاد بلا أساس علمي، وسيكون لهذه التهمة عواقب مستقبلية تتمثل بالحد الأدنى بغياب الثقة مجددا بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية.
مثل المؤرخين، رجال السياسة والسلك الدبلوماسي في حقبة حكم العائلة أيضاً ملزمون بالبحث عن الحقائق الضائعة. وهم مجبرون على النظر بصدق وأمانة الى الركائز الأساسية الفعلية للسلطة البعثية وسلطة العائلة، وإننا نجزم القول بأن هناك الكثير من الحقائق التاريخية المتعلقة بتلك الحقبة لم تظهر بعد.
من المؤكد بأننا لا يمكن أن نصل الى الحقيقة من خلال المبالغة بدور المؤسسة العسكرية وتجاهل أدوار ومواقع باقي المؤسسات التي تطرقنا الى البعض منها أنفا.
-خلاصة القول: لقد كانت مواقف معظم النخب الفكرية من المؤسسة العسكرية وعلاقتها بالسلطة في مرحلة الانقلابات العسكرية مبنية على أحكام مسبقة واتهامات جاهزة لتجريم تلك المؤسسة الوطنية وتحميلها كل المصائب والكوارث التي حلت بسورية متجاهلة دور رجال السياسة أنفسهم الذين كانوا جزءا أساسيا من الدكتاتوريات علاوة على تجاهل الكثير من العوامل الأخرى الفاعلة والمؤثرة الظاهرة منها والخفية.
لذلك كانت ترتسم ملامح حقبة من عدم الثقة بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية الوطنية ويسود جو من الاضطراب وعدم الاستقرار استغلته على نحو أكيد جهات خارجية وداخلية مرتبطة بها لزج قيادات هذه المؤسسة بأتون صراع سياسي داخلي، وكان الهم الأكبر لتلك القيادات العسكرية المرتبطة عضويا بالخارج التحالف مع شاكلتها من النخب السياسية العميلة هو الوصول الى السلطة لتنفيذ ما يطلب منها خارج إطار المهمة الأساسية للجيش والقوات المسلحة. ونحن اليوم بكل أمانة وصدق لا نريد أن تتكرر هذه الديباجة في سورية المستقبل، بل نريد دولة مواطنة كاملة السيادة تكون المؤسسة العسكرية فيها الضامن الحقيقي لتلك السيادة بكامل أبعادها ومضامينها.
01.01.2022م
——–
عن موقع “المؤتمر الوطني السوري”