سيكولوجية الحلال والحرام / عمران سلمان
“الحلال” و”الحرام” مفردتان دينيتان كما هو معروف، وهما من المفردات الاستاتيكية، أي الجامدة، ومع ذلك قد يبدو أحيانا أنهما تختزنان من القوة والتأثير المستمر، الذي لا راد له، على الإنسان.
إن ما يمنحهما هذه القوة وذلك التأثير هو ليس ذاتهما أو المصدر الذي يأتيان منه، وإنما فقط إيمان الإنسان والتزامه بهما. فهو حين يفعل ذلك إنما هو في الواقع يتنازل طواعية عن جزء من حريته في اقتناء، أو ممارسة، أو استعمال، أو استهلاك هذا الشيء، أو ذاك، في سبيل جائزة أكبر تنتظره، أو هكذا يعتقد.
وحين يكف هذا الإيمان أو يضعف فإن تأثير الحلال والحرام يتلاشى. واليوم يبدو الإنسان المعاصر أبعد ما يكون عن التأثر بهذه المفردات. والكثيرون يستعيضون عنها بمفردات مثل الضار/النافع أو المفيد/عديم الفائدة أو “الجانك فود” في مقابل المغذي في حالة الطعام، وهلم جرا.
وللوسط الذي يوجد فيه الإنسان دور كبير أيضا في صياغة درجة التزام أو عدم التزام الإنسان بما هو حرام أو حلال، حيث إن غياب الفردية والذي يستتبع معه تدني درجات الخصوصية، يجعل الإنسان في معظم الوقت تحت رحمة آراء وتقديرات الآخرين أو المجتمع، ومن ثم فإن سلوكه ومواقفه تصاغ وفق ما هو مقبول أو غير مقبول في المجتمع. وهذا يعني التزاما أكبر بالأوامر الدينية.
لكن المنشأ الديني ليس سوى أحد المظاهر هنا وليس الوحيد. الواقع أن سيكولوجية الحلال والحرام تعمل حتى في المجتمعات التي تقل أو تنعدم فيها مظاهر الإيمان الديني.
وفي هذه المجتمعات بالذات من المثير مراقبة “الديناميكية” التي ينشئها الإنسان في تعامله مع قضية “الحلال” و”الحرام”، حتى وهو يتعامل مع قضايا ليس لها صلة بالدين.
على سبيل المثال اعتاد بعض الناس على اتخاذ موقف سلبي من المياه الغازية (الصودا) مثل البيبسي أو الكولا وغيرهما، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل طوروا مع الوقت مشاعر سلبية ليس فقط ضد هذا المنتج وإنما أيضا ضد من يبيعه أو يستهلكه، ومع الوقت أيضا أصبحوا يقتفون كل خبر أو دراسة أو بحث يثبت صحة اعتقادهم في الأضرار الناتجة عن استهلاك المياه الغازية. ولو قدم أحد لهم كأسا من المياه الغازية فسوف تكون ردة فعلهم، قليلا أو كثيرا، مثل ردة فعل المسلم حين تقدم له كأسا من النبيذ أو البيرة.
ويمكن أن نرى ذلك أيضا لدى النباتيين في الموقف من اللحوم واستهلاكها، أو لدى المناهضين للوجبات السريعة.. الخ.
المشكلة هنا ليست في الموقف من المياه الغازية، حيث إن استهلاكها من عدمه يظل مسألة شخصية، ولكن المشكلة هي في تحويل هذا الموقف من مجرد رأي أو اختيار إلى أيديولوجية وإلى أحكام وآراء مسبقة.
والحال أن كل رأي أو موقف من شيء يمكن أن يتحول إلى حلال أو حرام، حتى وإن لم نستخدم هذه المفردات، بمجرد أن نقطع المسافة من الرأي إلى الأيديولوجية، والدخول في مجال الآراء والأحكام المسبقة.
والدين بما أنه في جوهره أيديولوجية مطلقة لذلك يمكن ملاحظة التأثير الهائل الذي تتركه تعاليمه على الناس من هذه الناحية.
وفي حين يمكن أن يغير الناس مع الوقت من مواقفهم تجاه أنماط الحياة المختلفة، أو ينتقلون من تجربة إلى أخرى بحسب تقدمهم في السن أو اكتسابهم مهارات وخبرات ومعارف جديدة، فإن الموقف الديني الحدي فيما يتعلق بالحلال والحرام يسبغ طابعا نهائيا على هذه التجربة الإنسانية. ولا يمكن للإنسان أن يتخلص من ذلك إلا بتركه الاعتقاد الديني نفسه أو بتغيير تفسيره وفهمه لهذا الاعتقاد على نحو يجعله يعطي الأولوية للمجاز والمعنى العام على المعنى الحرفي أو النصي.
لكن الأمر الجوهري هنا يظل في استيعاب سيكولوجية الحلال والحرام وليس فحسب في المفردات نفسها، وهذه السيكولوجية تقوم على منح هوية للشخص الملتزم بالحلال أو الممتنع عن الحرام، هوية تجعله يميز نفسه في إطار التفضيل والاستعلاء، ولا فرق هنا سواء كان السياق دينيا أو غير ديني. فهذه الهوية تخاطب “الأنا” في الإنسان، و”الأنا” تجور على كل شيء وتستهلك كل ما هناك وتحوله إلى خدمتها، بما في ذلك الدين والأيديولوجيات والآراء والمواقف المختلفة.. ومسائل “الحلال” و”الحرام” ليست استثناء من ذلك!
——-
/ عن موقع “الحرة”