كيف نجعل روسيا تدفع الثمن في أوكرانيا؟ ندرس ما حصل في سوريا/ آنا بورشفسكايا(*)
من الضروري لواشنطن أن تُظهر لبوتين أنّ تدخّله المحدود في سوريا وإفلاته منه لن يتكرر هذه المرة، بل ما يحدث سيؤدي إلى استحكام جوهري لحلف “الناتو” وإلى انتكاسات استراتيجية كبيرة.
تستعد روسيا لغزو أوكرانيا في الأيام المقبلة. وتمثل هذه الأزمة التي ابتدعتها موسكو التحدي الأكبر لمصير الأمن الأوروبي منذ نهاية الحرب الباردة، ووصلت موجاتها الزلزالية إلى جميع أنحاء العالم. وفي حين لدى جميع الدول مخاوف أمنية مستمرة تجاه البلدان المجاورة لها، إلّا أن الأزمة الي لفّقها الرئيس الروسي بوتين لا تبرر أي عدوان إضافي. وحيث أن هذه المشكلة ستبقى قائمة بشكل أو بآخر في المستقبل المنظور، يجب على الغرب أن يجعل بوتين يخسر – ويخسر الكثير. وفي هذا الصدد، يمكن استخلاص دروس مفيدة من التدخل الروسي في سوريا.
دروس من الاستراتيجية الروسية
تنتهج موسكو استراتيجيةً تقوم على “أعمال محدودة في الخارج”، وسوريا هي المثال الرئيسي لهذا النهج. فحين تدخّل بوتين هناك في أيلول/سبتمبر 2015 لإنقاذ الديكتاتور بشار الأسد، ركّزت موسكو على استخدام القوات الجوية الفضائية بدلاً من القوات البرية وأنشأت نظام أسلحة لمنع الوصول (A2/AD) من أجل ردع الغرب. وبالفعل تضمّنت الحملة الروسية في سوريا عناصر حرب فضائية سيكون من الإنصاف القول إنها قررت مسار أسلوب روسيا الحربي المتطور. ويتضمن هذا النهج استخدام أسلحة دقيقة طويلة المدى متعددة المجالات وعالية التقنية لتشمل تلك الموجودة في الفضاء الإلكتروني ضد أهداف مدنية وعسكرية، بالإضافة إلى غارات القصف والضربات الجوية واسعة النطاق.
وتشير التجربة السورية إلى أنه إذا استمرت موسكو في صراع مفتوح في أوكرانيا، فقد تنشئ على الأرجح نظام أسلحة لمنع الوصول(A2/AD) أقوى من الذي أنشأته في سوريا، عبر استخدام قوتها الجوية ونيران جيشها الدقيقة وبعيدة المدى. ويبدو واضحاً من الموقف العسكري الحالي لموسكو أن هذا السيناريو وارد، على سبيل المثال، كشفت صور حديثة للأقمار الصناعية عن وصول صواريخ كروز “إسكندر-إم” و”سو-34″ إلى جانب منظومات الدفاع الجوي “إس – 400” وأسلحة أخرى. وتقوم موسكو بإعداد القدرة على استخدام ضربات دقيقة بعيدة المدى ضمن منظومتها الدفاعية الجوية التي تشمل نظام منع الوصول (A2/AD). وبالتالي، ليس لدى القوات الجوية والبحرية الأوكرانية، ناهيك عن القوات المدرّعة وقوات المناورة الآلية الأوكرانية، أي فرصة للصمود.
وفي سوريا، لم ينجح الغرب في رفع تكاليف الانخراط العسكري الروسي، مما سمح لموسكو بترسيخ وجودها العسكري في شرق البحر المتوسط الحيوي استراتيجياً. واليوم، يعزز هذا الموقف موقع روسيا في البحر الأسود ويزيد من الضغط على أوكرانيا. بإمكان الغرب أن يتعلم من فشل التقاعس في سوريا وأن يضع بوتين في معضلة عسكرية تتمثل في الانخراط على نطاق أوسع مما يريد، والتسبب تماماً بما تجنّبه بوتين في سوريا – وهو الوقوع في مستنقع [الحرب].
البحر الأسود وتطويق أوكرانيا
أولاً، على الغرب ضمان الدعم المناسب للجيش الأوكراني، أي عليه أن يقدم المساعدة التي تغيّر حسابات القرار الروسي. على سبيل المثال، كان تزويد البحرية الأوكرانية بزوارق دورية مجددة من طراز الجزيرة تابعة لحرس السواحل الأمريكية فكرةً ممتازة. ولكن إذا لم يتم تزويد هذه الزوارق بصواريخ هجومية، فلن تكون نافعة، ليس فقط في البحر الأسود وفي ردع روسيا، بل في الصراع العسكري الحديث ككل. وحتى الآن لم تنجح القدرات الدفاعية في ردع روسيا.
وفي الوقت الحالي، يتّبع الكرملين نهجاً ثلاثي الجبهات لمحاصرة أوكرانيا: الجبهة الأولى تقع على طول الحدود مع بيلاروسيا، والثانية إلى الشمال وصولاً إلى دونباس شرقاً، والجبهة الثالثة والأخيرة على طول الساحل الأوكراني الذي يشمل بحر آزوف وشبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، حشدت البحرية الروسية سفناً في كلٍّ من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. لكن بغض النظر عمّا يحدث في أوكرانيا، يجب أن يبقى البحر الأسود بيئة متنازع عليها؛ ويعني ذلك تزويد أساطيل “الناتو” البحرية في البحر الأسود بقدرة حقيقية على فرض تكاليف على البحرية الروسية.
وأدى تحديث روسيا لأسطول البحر الأسود ليشمل قوات جوية وصاروخية، إلى إيجاد ما أطلق عليه المحللون “بحيرة روسية”. لذلك فإن استيلاء روسيا على المناطق الساحلية الأوكرانية، ناهيك عن الجزء الشرقي بأكمله من أوكرانيا، سيمنحها نفوذاً أكبر على المنطقة والقدرة على فرض نفوذها في منطقة البحر المتوسط. وبالتالي، يجب على “الناتو” التحرك لتعطيل هذا المسار عبر تشكيل قوات قادرة على ردع الأعمال الروسية وتحدّي تفوّقها البحري.
ويستدعي هذا الأمر الإصغاء للأوكرانيين ولو لمرة واحدة، لأنهم غالباً ما يعرفون الروس أفضل مما يعرفهم الغرب. فقد أطلق الأدميرال إيغور فورونشينكو نداءات متكررة خلال قيادته للبحرية الأوكرانية، لمساعدة بلاده على إنشاء “أسطول مصغّر” من زوارق هجوم صغيرة وسريعة وفتاكة. لكن نداءاته ذهبت أدراج الرياح في الغالب. وهنا، يجب على الغرب أن يقدّر الطريقة المثلى لتزويد حلفاء الولايات المتحدة في “الناتو” الذين لهم سواحل على البحر الأسود بقدرات حقيقية تغيّر أسلوب التفكير الروسي.
التعزيزات، والمعارضة في المنفى، وحركة التمرد
بمحاصرتها الحالية لأوكرانيا، قضت روسيا على حرية المناورة للقوات البرية الأوكرانية. بذلك ستكون القوات الروسية قادرة على القضاء عليها بشكل منهجي باستخدام القصف البعيد المدى والتفوق الجوي الذي يعمل تحت مظلة منظومة دفاع جوي متكاملة. وسيضمن التفوق الجوي الروسي ألا تكون القوات الأوكرانية قادرة على إرسال التعزيزات إلى أي نقطة هجوم لأنها إذا تحرّكت فسوف تتعرض للقصف. وفي المقابل، عند حصول الهجوم البري المحتمل الذي يأتي في أعقاب الهجوم الجوي الشبيه بعملية “عاصفة الصحراء”، سيتم القضاء على الجيش الأوكراني إذا صمد وقاتل، مثلما حدث نتيجة تفوّق الجيش العراقي. يتعين على الولايات المتحدة و “الناتو” تخفيف هذا الضغط وضمان حصول الجيش الأوكراني على التعزيزات.
وبما أن بوتين طلب صراحةً العودة إلى المواقع العسكرية لحلف “الناتو” لعام 1997، فإن هذه الأزمة تكشف ما يجب على الغرب فعله بدلاً من ذلك. يجب على الجيش الأمريكي نصب صواريخ بعيدة المدى وبأعداد كافية لوضع الجيش الروسي في مرمى النيران. وليس المقصود استهداف موسكو، بل علاقة الجيش الروسي حول ترابط القوات والوسائل على طول محيط منطقة “الناتو”. وينبغي على الأقل نشر هذه القدرات بشكل دائم وبالتناوب في بولندا ورومانيا ودول البلطيق على التوالي. كما يتعين على الغرب أن يضع بوتين في موقف يضطر فيه إلى التفكير في إعادة توزيع القوات التي نقلها من المنطقة العسكرية الشرقية إلى الغرب (بيلاروسيا) بشكل دائم. ولن يكون هذا الأمر غير مرغوب فيه بين سكان بيلاروسيا فحسب، بل سيزيد من ضعف روسيا أمام الصين وداخل شرقها الأقصى.
وفي حالة حدوث اجتياح كامل لإحداث تغيير في النظام الأوكراني، يجب اتخاذ خطوة رئيسية أخرى ترفع التكاليف على بوتين، وهي ضمان حماية الأفراد المعنيين الرئيسيين وإخراجهم من البلاد لتشكيل حكومة أوكرانية في المنفى. وإذا أدى ذلك إلى صراع مباشر مع قوات العمليات الخاصة الروسية، فيجب على القوات الأمريكية وقوات حلف “الناتو” التشبث بموقفها. ومن المرجح أن تحاول قوة اجتياح روسية القضاء بشكل منهجي على الشخصيات الحكومية الرئيسية بدءاً من المستوى الوطني نزولاً إلى المستويات المحلية. وفي الواقع، زعمت حكومة المملكة المتحدة في الشهر الماضي وجود مؤامرة روسية سابقة للإطاحة بالحكومة الأوكرانية. ومن خلال الحفاظ على حكومة أوكرانية حقيقية في المنفى فإن ذلك يضمن أن يكون لحركة التمرد تنظيم وأن يحظى بالتوجيه الأولي. وعلى المنوال نفسه، يجب أن يحرص الغرب على دعم حركة تمرد مشروعة، خاصة لأن الأوكرانيين سيقاتلون. فهم يدركون المخاطر ويعرفون تماماً ما الذي يقاتلون من أجله.
دروس في الدبلوماسية
توفّر سوريا من جهتها درساً قيماً في كيفية ممارسة الدبلوماسية، خاصة وأن الحروب تُحلّ بالدبلوماسية وليس بالوسائل العسكرية وحدها. ففي سوريا، اتبعت موسكو نهجاً استهدف الحكومة كاملة، ولم تكتفِ بالقوة الوحشية وحدها. فقد أقنع الكرملين جميع الأطراف بأن روسيا قادرة على أن تكون جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة، وهذا أمر نتطرق إليه بمزيد من التفاصيل في ورقة بحثية أعددتُها مع زميلي أندرو ج. تابلر. ومن وجهة نظر موسكو، تُعتبر الأعمال العسكرية عنصر ثانوي تابع للأهداف السياسية للقيادة الروسية ويدعمها بطريقة مباشرة. لكن منذ نهاية الحرب الباردة، يبدو أن هذه المقاربة تجاه الصراع كانت غائبة عن العمليات العسكرية للولايات المتحدة وحلف “الناتو”.
وفي هذا السياق، يشدد رئيس هيئة الأركان العامة الروسية فاليري غيراسيموف على نسبة أربعة إلى واحد بين الوسائل العسكرية وغير العسكرية. وهذا يعني أن الأعمال والأنشطة الدبلوماسية والمعلوماتية والعسكرية والاقتصادية بمجملها تدعم إحداها الأخرى لتحقيق الأهداف السياسية للقيادة الروسية. وتنتهج الدولة الروسية الاستراتيجية نفسها تجاه أوكرانيا، حيث تستخدم كل عناصر الإكراه والترهيب [السياسي] لتحدد طريقة عزم “الناتو” على مواجهة العدوان الروسي.
وبخلاف الغرب، لا تفصل روسيا بين الذين يمارسون الدبلوماسية وأولئك الذين يذهبون إلى الحرب. ولهذا السبب غالباً ما يربح الغرب المعارك ولكن يخسر الحروب. ولزيادة الضغط على بوتين، يجب على الغرب أن يتعامل مع الصراع باستخدام جميع ركائز القوة لمضاهاة حرب روسيا “القائمة على تعدد الخيارات”.
مكاسب من الخسارة؟
دخل بوتين سوريا وهو يعلم أنها معركة يمكنه الفوز بها. أما في أوكرانيا، فيحتاج إلى معرفة حجم الخسارة التي سيتكبّدها. والواقع أن الهدف من سوريا وأوكرانيا بالنسبة لبوتين هو تقويض نفوذ الولايات المتحدة، ومصداقيتها، وتماسك “الناتو”، ومنظومة الأمن الأوروبية. إن العقوبات وحدها لم تغيّر سلوك بوتين. لذلك يجب على “الناتو” أن يذهب هذه المرة إلى أبعد من ذلك وأن يطرح تساؤلات حول المنطق الذي اتبعه بوتين من خلال تقديمه مطالب غير واقعية للقيادة الغربية. يجب على الغرب أن ينظر إلى كلا الصراعين من خلال هذا المنظار، خاصة وأن البحر الأبيض المتوسط يمتد على طول كل من أوروبا والشرق الأوسط. ويتطلب ذلك زيادة قوات حلف “الناتو” وقدراته ليس في أوروبا الشرقية فحسب، بل في البحر المتوسط أيضاً، من أجل دفع بوتين إلى إعادة تقييم وضع القوة الروسية بسبب الارتباطات المتنامية غير المواتية بين القوات والوسائل المستخدمة.
إنّ أوكرانيا، كما أشار البروفيسور روري فينين، هي منافس لروسيا “في مجال القيم السياسية”. وبالفعل، وصف المؤرخ سيرهي بلوخي في كتابه “المملكة المفقودة” أن الدولة الروسية بدأت وجودها من خلال سحق نوفغورود التي كانت تشكل مركزاً رئيسياً في روس الكييفية، ومنافساً ديمقراطياً لدوقية موسكو (“موسكوفي”) الاستبدادية. وعلى مدى القرون التالية، لم تغيّر الدولة الروسية سوى الوسائل التي سعت من خلالها إلى تحقيق أهدافها، ولكنها لم تغيّر الأهداف بحد ذاتها.
وفي بعض الأحيان، يمكن فقط للخسارة العميقة والمدمّرة الناتجة عن حسابات خاطئة من صنّاع القرار أن تتسبب في إعادة تقييم جوهرية للمعتقدات الأساسية. ويقيناً أن الغرب سبق أن ألمح إلى استعداده للذهاب إلى أبعد من أي وقت سابق، لكن عليه الاستمرار على هذا النهج وعليه أن يُظهر أن الأزمة التي ابتدعها بوتين ستؤدي الآن إلى الأمور نفسها التي طالب بوتين بتصحيحها فيما يتعلق بحلف “الناتو”.
ولكن ما هو أكثر من ذلك، ومن المفارقات، أن الأزمة قد تؤدي إلى مكسب لم يسبق للعالم رؤيته حقاً من قبل – وهو تغيّر روسيا بصورة جذرية، تخسر فيه طبقة “سيلوفيكي” شرعيتها بعد أن كانت قد استولت على تطور روسيا الديمقراطي بعد الحرب الباردة، أي عيش روسيا بسلام دائم مع نفسها ومع جيرانها.
——–
(*) آنا بورشفسكايا هي زميلة “آيرا وينر” في معهد واشنطن، حيث تركز على سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط.
/ عن موقع “معهد واشنطن”