الوطن

هل تستعاد الأيام الأولى للثورة؟ / رشا عمران (*)

لعل أجمل أيام السوريين كانت في الأشهر الأولى من الثورة حيث أظهرت الثورة أجمل ما في داخلهم. صداقات وعلاقات جديدة قامت على أساس نبيل؛ محبة وتراحم وألفة لم يعهدها السوريون من قبل؛ وعي وخيال وإبداعات كانت مختبئة في ظلّ نظام استبدادي استطاع أن يخنق كل محاولات التميّز والتفرّد والحقيقي لصالح القطيعي والهامشي والاستهلاكي؛ تعاون وشغل جماعي يحفظ للفرد حقه في التمايز دون أي تضخم للذات؛ لقاءات ونقاشات وحوارات ضمّت مختلف الأجيال السورية مثلما ضمت مختلف التيارات والمكوّنات؛ طرافة ونكات وخفة روح ودم كانت متوارية تماماً في ظلّ نسق صارم يميل إلى السماجة الحزبية والدينية الرسمية؛ اكتشاف لأماكن سورية مجهولة قوامها مدن وبلدات وقرى عانت طويلاً من التهميش مثلما عانى سكانها من الإقصاء عن مشهد الحياة السورية اليومي؛ خوف وشغف وترقّب وانتظار وقلق وتوق وتحدّ وإصرار وعزيمة ورغبة خارقة بالحياة رغم الموت الذي كانت رائحته تنتشر شيئاً فشيئاً في سوريا؛ اختراق لكل محاولات النظام في خنق الصوت السوري التوّاق للحرية والحالم بدولة سورية جديدة قائمة على العدالة والتعدّد والمواطنة واحترام الفرد لقيمته ولذاته لا لانتمائه لهوية ضيقة أو عابرة؛ ثورة في الشارع في المقهى في أماكن العمل في البيوت في لعب الأطفال في الحدائق على صفحات النت على مواقع التواصل الاجتماعية الافتراضية والتي حولتها روح السوري إلى عوالم حقيقة نابضة وإلى علاقات يومية متينة وحقيقية.
لم ينكسر فقط جدار الخوف الذي عاش فيه السوريون عقوداً طويلة بل تهشّم وأصبح تراباً وصار من الصعب ترميمه أو بناء جدار بديل عنه. تلك المرحلة كانت مرحلة اكتشاف السوري لحواسه ولغرائزه ولتفاصيله ولهواجسه ولمخاوفه ولعلاقته بذاته وبأقرب الناس إليه وبأبعدهم عنه. كانت مرحلة للتسامح والغفران وإعادة بناء النسيج السوري على أسس وطنية كاملة نابذة للخلافات حتى العاديّ منها، وقد استطاعت الثورة في مراحلها الأولى أن تجبّ ما كان قبلها واستطاع السوريون أن يثبتوا عراقتهم في سوريّتهم واستحقاقهم لها.
كان لكل ما سبق أن يستمرّ طويلاً وأن يتّسع ليضمّ حتى الخارجين عن هذا التناغم لو أن النظام سقط قبل انتهاء السنة الأولى من الثورة، لو أن العنف كان أقل لو أن الدم لم يصبح هو لون سوريا لو أن البشرية كانت أكثر إنسانية وعدالة.
خاض النظام حرباً حقيقة ضد السوريين الثائرين مستخدماً فيها كل وسائل الإجرام المعروفة والمجهولة، وخلفه كان النظام العالمي يضع خططه لتدمير البنية السورية الاجتماعية والفردية. كان الجميع يدرك أن ديموقراطية سورية تعني ربيعاً عربياً كاملاً يشمل كلّ المحيط، تعني سقوطا لاستراتيجيات اقتصادية وسياسية ودينية بدأ تأسيسها في المنطقة مع نهاية الحرب العالمية الثانية. لم يكن لأحد أن يسمح بتغيير ما توافق عليه الجميع، الحل إذاً هو الاستفزاز واستثارة الغرائز المكبوتة منذ عقود، الدم، الوسيلة المجرّبة تاريخياً لإلغاء العقل تماماً، كان متوفراً لدى شباب آمنوا أن لا عودة عن أحلامهم ولا رجوع إلى ما كانوا عليه. وثمة مجرم بأدوات متطورة جاهز لسفك هذا الدم. قتل في الشوارع، تعذيب حتى الموت، إعدامات ميدانية، تهجير، تفريغ البلد من أكثر شبابه وعياً وقدرة على التأثير العقلي، تنشيط الفضائيات المحرضة على الكره، نشر حالة من الإحباط لدى السوريين وتركهم منفردين أمام وحش يستخدم أقذر أساليب الإجرام، التركيز على عدوّ مفترض للسوريين الثائرين وتحويل الأنظار عن العدوّ الحقيقي، طبقة سياسية معارضة تعيش في الخارج يهمّها أن تصل إلى السلطة بغضّ النظر عن الثمن المدفوع: تجويع، تدمير،عقوبات جماعية، يأس كامل. اليأس أيضاً يشتغل على الغرائز المكبوتة ويحيل صاحبه إلى الاستعانة بالشياطين لتساعده على الخلاص، إطالة زمن المعاناة وتجذيرها يوماً بعد يوم. كل ذلك عمل على إخماد وهج الأشهر الأولى للثورة تماماً واستبداله بالخلافات العقائدية والطائفية والمناطقية والطبقية ونشر ظاهرة التطرّف بإسم الجهاد، مما أعطى ذريعة للمتردّدين أصلاً بالمشاركة بالثورة للابتعاد وتبرير مواقفهم بالخوف من الظلام القادم إلى سوريا مع الجهاديين.
أظهرت الثورة في سنتها الأولى أجمل ما في السوريين وأظهرت في سنتها الثانية أقبح ما لديهم. وبينما يستنفر النظام خياله الإجرامي لاستنباط أساليب جديدة للموت بمباركة من العالم، يتوزّع ثوار سوريا وناشطوها بين الكتائب الجهادية والإسلامية والوطنية، أو يعيشون في قلب المدن ويعملون سرّاً على إغاثة العائلات المنكوبة والمهجّرة تحت طائلة الاعتقال ،أو يتحوّلون إلى ناشطي فيسبوك في الخارج، تشتّتهم الخلافات والمال السياسي و أجنداته، لكن في العمق يجمعهم الحنين إلى أيام الثورة الأولى والرغبة في الخلاص للبدء في إعادة إعمار سوريا.
——–
(*) رشا عمران هي شاعرة سورية
/ عن موقع “المدن”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى