المجتمع

البداوة والحضارة 1 – المفهوم الخلدوني د. سعد بن عبدالله الصويان (*)

ليست عامية اللغة هي السبب الوحيد وراء رفض الشعر النبطي, السبب الآخر هو أن هذه اللغة مسكونة بالبداوة.
ورفض الشعر النبطي رفض لقيم الصحراء التي يستلهمها وحياة البادية التي تشكل مادته الفنية, هذا الرفض وإن اتخذ شكل الصراع بين العامي والفصيح تحكمه جدلية الصراع الأزلية بين البدو بثقافتهم الشفهية والحضر بثقافتهم الكتابية.
وانتصار الثقافة الكتابية على الثقافة الشفهية يعني في نهاية المطاف انحسار البداوة وقيمها امام الزحف المدني المدجج بالتكنولوجيا والأيديولوجيا وأدوات الكتابة, تكاد البداوة تختفي من الوجود وهي الآن تحتضر وتموت ببطء كما يموت البعير، ومع ذلك فإننا لم نبدأ بعدُ محاولة استكشاف حقيقة العلاقة الإيكولوجية بينها وبين الحضر، والتي تقوم على التكامل والتعاون مثلما يشوبها التوتر والصراع, في تتبعنا لتاريخ العلاقة بين البدو والحضر ومحاولة تفسير الصراع بينهما نجد أنفسنا، وذلك بحكم ثقافتنا المدرسية وتنشئتنا الكتابية، نتبنى دونما نشعر موقفا ذهنيا ومعرفيا لايختلف في بنيته وتكوينه عن موقفنا تجاه الأدب الشعبي واللهجات ونتقمص دوما وبدون وعي منا وجهة النظر المدنية الحضرية المنحازة ضد البداوة لقد آن لنا أن نتخطى هويتنا الحضرية في كتابتنا للتاريخ ودراستنا للمجتمع وأن نتجاوز تحيزات الكتابة ونحاول فهم الثقافة الشفهية البدوية فهما حقيقيا من داخلها وفق شروطها هي حتى نتمكن من رؤية العالم بعيون بدوية، علينا أولا ان نفهم حقيقة البداوة لا كضد للحضارة ورمز للفوضى والدمار وإنما كثقافة مكيفة لاستغلال مناطق إيكولوجية وموارد طبيعية غير متاحة ولا تتواءم مع طبيعة الحياة الحضرية، بعدها علينا أن نعيد تقييم علاقة البدو مع الحضر ونفهم طبيعتها من وجهة النظر البدوية والحضرية على حد سواء.
تمر على الجزيرة العربية دورات من الخصب ومن الجفاف, في أعوام الخصب يتكاثر الناس ويحدث ما يشبه الانفجار السكاني, ويتلو ذلك سنون عجاف يهلك فيها الحرث والضرع فتلفظ الجزيرة بسكانها على شكل موجات متتابعة من الغزوات أو الهجرات التي تتدافع باتجاه الهلال الخصيب، وآخرها الهجرات التي قامت بها قبائل شمر وعنزة إلى ديرة الحبان (أي الحبوب) أو ديرة الريف والرغيف أو دويد العسل كما يسمونها, وفي التاريخ الحديث وصلت جيوش الدولة السعودية الاولى إلى كربلاء، وكادت جيوش فيصل الدويش والإخوان أن تصل إلى هناك في النصف الأول من هذا القرن, لذا كان من الطبيعي أن يسود الصراع علاقة حواضر ومدنيات الهلال الخصيب مع الموجات المتعاقبة من الغزاة والمهاجرين المندفعة من قلب الجزيرة العربية, ومعلوم أن الكتابة، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتحضر، ظهرت أول ما ظهرت لدى حضارات وممالك الهلال الخصيب التي استفادت منها في حسم صراعها الثقافي والأيديولوجي مع البدو لصالحها, الكتابة كانت الوسيلة الفعالة التي استخدمتها تلك الحضارات في كتابة التاريخ، بما في ذلك صراعهم مع البدو، وفق رؤيتهم هم للأحداث وتفسيرهم لها, كما لعبت الكتابة التي نشأت في أحضان المدنية دورا أساسيا في بلورة انساق فكرية ومقولات ايديولوجية مناهضة للبداوة تصورها كحالة أقرب إلى الدمار منها إلى العمار وأميل إلى الفوضى منها إلى النظام, هذا بينما الحياة البدوية حياة ترحالية لا تبني ولا تشيد وثقافتها ثقافة شفهية لا تقيد ولا توثق، اننا بذلك نعدم الشواهد التي نستطيع من خلالها ان نفهم وجهة النظر البدوية حيال صراع البدو مع الحضر, ومع تزايد سلطة الإرث الكتابي أخذت الكتابة تحل محل المشافهة في تخزين المعارف وتشكيل الوعي العام وعلى مر القرون تتراكم ما تنطوي عليه الكتابة التاريخية من تحيزات ضد البدو وثقافتهم مشكلة بذلك تضادية بين الثقافة الشفهية والثقافة الكتابية موازية للتضادية بين البداوة والحضارة, هذا الموروث الكتابي المنحاز ضد البداوة كان هو الاساس الذي قامت عليه الديانات والمدنيات الكتابية اللاحقة في الشرق، بما في ذلك المدنية العربية، خصوصا وأن أهل الهلال الخصيب، وكذلك الفرس، ساهموا مساهمة جوهرية في صياغة هذه المدنية منذ مراحلها المبكرة، ولو رجعنا إلى البدايات الأولى للتاريخ العربي الاسلامي، حينما كان العنصر العربي الذي تغلب عليه البداوة هو العنصر الفاعل والمؤثر, فإننا نلاحظ أولوية المشافهة وتفضيل التلقي الشفهي على الكتابة، كما يدل على ذلك تردد الخليفة أبي بكر في كتابة القرآن الكريم وعدم تدوين الحديث الشريف إلا في مراحل لاحقة وعدم منح الإجازات لطلاب العلم لا بعد تلاوتهم لمادة علمهم تلاوة شفهية على من يأخذون العلم عنهم, وحينما ترسخت الكتابة، خصوصا مع تحول مراكز صياغة الحضارة العربية من بلاد العرب إلى بلاد الشام والعراق ومصر، ترسخت معها التحيزات المدنية ضد البداوة والتي اصطبغت في شكلها المتطرف بصبغة الشعوبية التي اتخذت من التهجم على البداوة وسيلة للنيل من العنصر العربي, الدخول إلى عالم الكتابة والموروث الكتابي يقود بالضرورة إلى التشبع بهذه التحيزات المدنية ضد البداوة وتشربها, هذا يعني أن الحضارة العربية بتحولها إلى حضارة كتابية وقعت هي نفسها في مصيدة الانحياز ضد ذاتها.
لذلك نجد ابن خلدون يرى في البداوة نقيضا للحضارة وضداً لها, صعوبة انقياد البدو وأساليب حياتهم التي تقوم على الحل والترحال وعلى الغزو والغارات لا تتوافق مع ما يتطلبه التحضر من أمن واستقرار ونظام وانضباط طبيعة الحياة البدوية، كما يراها ابن خلدون، منافية للعمران ومناقضة له لأن البدو أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة, وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له,, طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران، هذا في حالهم على العموم, وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتبهوه, فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ اموال الناس وخرب العمران وايضا فلأنهم يكلفون على أهل الاعمال من الصنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثمن والأعمال، كما سنذكره، هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعر الساكن وفسد العمران، وأيضاً فإنهم ليست لهم عناية بالاحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض، إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو غرامة, فإذا توصلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد, وربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم, وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرض لها, بل يكون ذلك زائداً فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض, فتبقى الرعايا في ملكتهم كأنها فوضى دون حكم, والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران,
وهكذا غض ابن خلدون النظر عما يقوم بين البدو والحضر من علاقات اقتصادية وتبادلات تجارية وتعاون وتكامل في مختلف النشاطات الانتاجية والخدمات وسلط المجهر على الفروق الثقافية والسيكولوجية التي تباعد فيما بينهما وتميز احدهما عن الآخر، وتصبغ علاقتهما بصبغة الصراع السياسي والتضادية الثقافية, وتحتل البداوة في النموذج التطوري الذي يقدمه ابن خلدون لثنائية البدو والحضر مرحلة أولى بدائية متوحشة سابقة لمرحلة الحضارة وأصل لها ومتقدمة على وجود المدن والأمصار, يقول ابن خلدون:
قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم، ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه، لأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه, فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الانسان الضروري، ولا ينتهي الى الكمال والترف إلا اذا كان الضروري حاصلا فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة, ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه الى مقترحه منها, ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائد عاج الى الدعة، وأمكن نفسه الى قياد المدينة, وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم, والحضري لايتشوف الى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته.
ولكي يبرز التعاقبية الحضارية في هذه الثنائية عمد ابن خلدون الى تمثيل الطرف الحضري في أرقى درجات التمدن والتحضر بينما مثل الطرف البدوي في أدنى درجات التوحش وخشونة العيش فكانوا لذلك أشد الناس توحشا وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم, ما يتضمنه النموذج الخلدوني من تضادية صارخة وصراع حاد بين البدو والحضر لا يعكس العلاقة بين بدو الجزيرة وحضرها بقدر ما يعكس الصراع بين ممالك الشمال وحواضرها من جهة وبين موجات الهجمات والهجرات القادمة إليهم من قلب الجزيرة العربية من جهة أخرى.
وفي تعريف ابن خلدون للبدو ترد عبارات مثل قوله المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام و من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة ومن يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير منجدة إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ماوراءه وقد يأوون إلى الغيران والكهوف أي أن ابن خلدون يشمل تحت مسمى البدو حتى الفلاحين المستقرين في قراهم الزراعية المتناثرة في أجواف الصحاري العربية بينما يحصر مسمى الحضر على أهل المدن والعواصم والأمصار ومن يمتهنون التجارة والصناعة ومن بلغوا الغاية في الغنى والرفه واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر, ثم تزيد أحوال الرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التألق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصروح واحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة الى الفعل الى غايتها فيتخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويتخلفون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون, وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان, ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم.
——–
(*) الدكتور سعد عبد الله الصويان هو أكاديمي سعودي وأستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود.
/ عن موقع ” صحيفة الجزيرة” على النت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى