العام الرابع؛ طقوس و تحولات / خالد قنوت (*)
يقول المحلل الأمريكي ديفيد غارتنشتاين- روس:” الآن أصبح الأمر واضحاً بأن سقوط الأسد لم يعد حتمياً كما كان يعتقد الكثير من المحللين قبل عام” و أضاف أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ أن “السيناريو الأكثر احتمالاً هو الذي تتوقعه المخابرات الأمريكية حالياً: الحرب سوف تستمر أيضاً عشر سنوات و حتى أكثر من ذلك” انتهى الاقتباس على طريقة بشار الجعفري البغيض.
يمكن للبعض أن يتفاجئ كالعادة و يمكن للآخرين أن يشتكوا أو يشككوا و يربطوا كلام هذا المحلل بأصوله أو بارتباط مصالح الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني و لكن هل من المنطق أن نتغاضى عن هذا الكلام الخطير للمستقبل السوري و نعتبره هذيان و رغبات عدوانية غربية أو اسرائيلية و نمضي في سباتنا و نكتفي بالأحلام و التمنيات؟
في رسم السياسات الدولية تقوم أجهزة متخصصة بدراسة الاستراتيجيات بمنطق المشاريع و في المشاريع لا يمكن أن تقوم بأي مشروع دون توفر عناصر و آليات تدرس في الجامعات العالمية لكافة الطلاب و التي لم أجدها في أي جامعة عربية أو سورية على الأقل. من أهم عناصر البدء بالمشروع هو دراسة المخاطر و وضع خطوط بيانية يمكن لأي جهة منفذة أو وصائية أن تقدر تلك المخاطر و السيناريوهات المتوفرة و إمكانيات التغلب عليها أم لا, ثم تقرر البدء بالتنفيذ أو التأجيل أو إلغاء المشروع.
عشر سنوات و أكثر, سيناريو من عدة سيناريوهات لمسار الأزمة السورية و هذا منطقي و واقعي رغم كل الرغبات بسيناريوهات أقصر زمنياً و أقل خسارة و أكثر نفعاً للسوريين. لو نظرنا إلى ساعة الأزمة السورية فإننا ندرك بوعي أو باللاوعي أن ثلاث سنوات مرت على التدمير و القتل و العنف و الخيبات و الخيانات و أن ثلاث أعوام على ثورة عظيمة كان قيامها في حكم المستحيل و استمرارها في حكم الإعجاز. فيها الانتصارات المتفرقة و فيها استعادة لانسانية فقدناها نحن السوريين منذ عقود و فيها انكشاف العالم و الأصدقاء و الأعداء بقدر انكشافنا أمام أنفسنا و أنانيتنا و مدى الخراب الذي أحدثه نظام الاستبداد و الهمجية, فينا.
صحيح هذا أحد السيناريوهات, فليكن تفكيرنا و استراتيجيتنا كسورييين مبينة على اساس هذا السيناريو الأسوء و ليكن مبدأ عملنا من واقعية و صدق قيمنا (أن تعمل لسوريتك كأنك تعيش أبدا و تعمل لثورتك كأنك تموت غدا).
ثلاث سنوات مرت على الثورة السورية, رسخت واقعاً جديداً لا يمكن لأي تحليل أو تفكير علمي أن يتجاوزه و كأنه جملة من الطقوس اليومية يتعامل معها السوريون بالفطرة و المحللين السياسيين بالواقع.
طقوس الثورة و الحرب و قد أضحت واقعاً:
1- النظام هو الشر المطلق و هذه المسلمة لم تعد مثار حديث و نقاش حتى من ألد حلفاء النظام و منتفعيه. نظام استبدادي همجي لا اخلاق و لا انسانية و لا وطنية بدءاً بيوم تعامل مع متظاهرين سلميين يطالبون بأبنائهم, بالرصاص و العنف و مروراً باستدعاء التدخلات الأجنبية و الاستخبارتية و الميليشيات الطائفية للأرض السورية و تسليم سلاحه الاستراتيجي للغرب و ليس انتهاءً بالبراميل و الصواريخ و بالحصار و التجويع و إذلال لكافة مكونات الشعب السوري, الثائرين بكسر إرادتهم و الصامتين بممارسة الارهاب و التخويف و حتى الموالين بالزج بهم في أتون حرب خاسرة يدفعون فيها من دماء ابنائهم من أجل نظام عائلي ذاقوا منه الويلات على مدار أربعة عقود, ومع ذلك لم يكتفي النظام بهم بل استقدم ميليشيات مذهبية من لبنان و العراق و إيران و غيرها ليدفع بهم كقطعان ذئاب متعطشة للقتل و التنكيل بالجميع.
2- معارضة مشرزمة مشتتة و هزيلة لم ترتق إلى مستوى و لو متواضع لما قدمه و يقدمه السوريين من تضحيات و عذابات. معارضة بالمجمل هشة و متعطشة للسلطة و المال, تتعامل بضيق و نزق و تسرع. لم تضع حتى اليوم استراتيجية موحدة للخلاص و لم تتعامل مع الأحداث و المتغيرات بحس المسؤولية و التفاني بل بأمراض الماضي و بالتلطي وراء بطولات الانسان السوري العادي. معارضات لم تتفق سوى على اختلافاتها و على عدم تنظيم الحراك السلمي و المدني و الاغاثي ناهيك عن العسكري و فتحت دكاكين و اسواق لأحلام السلطة و المال مع كل الفرص التي قدمتها الثورة لها في التواجد على الأرض و بالمناطق المحررة لكنها تركتها للتطرف و الجماعات المرتبطة مبررة لها تواجدها بالقتال ضد النظام متناسية عقيدتها المتطرفة المرفوضة جملة و تفصيلاً من معظم أطياف النسيج السوري ما لبثت أن كانت هي نفسها إحدى ضحاياها و فتاوى تكفيرها للجميع.
3- مجموعات من المقاتلين باسم الجيش الحر, لم تكن يوماً تشكل و لو بمستوى فرقة أو لواء عسكري منضبط بعقيدة وطنية واضحة و بقيادة مركزية مخلصة و قادرة و تحظى باحترام و طاعة الجميع مع كل التقدير و الاحترام لنوايا المقاتلين الوطنية و للشهداء الأبرار منهم, يعانون الحصار و شح السلاح و الامداد بينما هناك وفرة لدى بعض التنظيمات المسلحة الأخرى المرتبطة بالممولين الخارجيين و كثرة مستودعات الأسلحة المخبأة لما بعد سقوط النظام.
التنظيمات المتطرفة ذات العقيدة القاعدية و التي لا تختلف عن النظام في مشروعها الاستبدادي و هي القناعة التي عرفها السوريين الأحرار و أدركها متأخراً من برر وجود تلك التنظيمات بحجة توحيد البندقية في وجه النظام دون الاتفاق على مبدأ القتال و أهدافه.
مجموعات من المرتزقة و المجرمين يدعون انتماءهم للجيش الحر و لكنهم يمارسون القتل و السطو و الاختطاف للمدنيين السوريين دون وازع و دون أخلاق و منهم من صار من أمراء الحرب و سيج منطقة نفوذه بما تحتوي من نفط و صوامع حبوب و حجر و بشر.
3- نظام دولي لا إنساني و لا إخلاقي يكيل المبادئ و القيم بمكيالين و كأننا شعوب لا تستحق الحياة و الحماية و كأن حقوقنا في الحرية و الكرامة مسألة فيها نظر. نظام دولي قدم للسوريين الوعود و الإخفاقات و قدم للنظام المهل و التبريرات و وسائل بقائه على بحر من دمائنا. أما مسالة النظام العربي فلا حياة لمن تنادي و لا داعي للنقاش فيها.
4- أحد أهم الطقوس و الذي لا يملك أحد حرية أو حق التحدث باسمه أو تجاوزه في معادلات الحل أو اللاحل, هو هذا الشعب الطيب العظيم الصامد و الصابر إلى حد الزهد. شعب لا يملك حيز الزمن للتفكير بالتوقف أو بالرجوع فقد خبر هذا النظام العار و استعاد تاريخ همجيته لذلك فهو بحكم حركة التاريخ يتقدم تجاه إسقاط هذا الكابوس و لو اقتلاعاً بطيئاً مؤلماً و دموياً. من تحت ركام بيوته و صرخات معتقليه و بطون أطفاله الفارغة يرفع شارات النصر لأنه لا يملك سوى هذا الحل و لا شيء غيره مع نظام يعرف أنه لا يمكن له أن يتراجع خطوة واحدة لأنها تعني سقوطه النهائي. شعب, لا يمكن أن يقبل بالتطرف و لا يمكن أن يتعايش معه و بفطرته يعرف أن التطرف يبدأ بالنظام و ينتهي به و بكل إمراء الحرب الجدد.
تحولات الثورة و الحرب:
1- في ظل هذا التواتر و مع امكانيات التحكم الدولي بمفاصل الصراع السياسي و العسكري فإن من مصلحة الجميع دولاً و أجهزة و نظام و أمراء حرب و مجموعات متطرفة و معارضات منتفعة و شبيحة, استدامة هذه الحرب لأنها عبث مطلق و فوضى يرسخان بهما مكاسبهم و مصالحهم على حساب السوريين و مستقبل سورية نفسه. لذلك يطرح سيناريو العشر سنوات و أكثر, كأحد أقوى السيناريوهات, فتسليح المعارضة و النظام يدخل في منظومة حسابات اللاهزيمة و اللانتصار إلى حدود تدمير كامل و شامل لكل سورية جيشاً و دولة و مؤسسات و بنية تحتية و شروخ اجتماعية لن تقيمها عقود قادمة من الزمن, و هذا يشمل أي مكان من سورية بدون استثناء أو حصانة.
2- في أي صراع لا يمكن دائماً و أبداً أن تمتلك كل المفاتيح التي تمكنك من التحكم المطلق بصراع سياسي و عسكري و اجتماعي دون أن يكون هناك تداعيات تصيب الجوار على أقل تقدير و خاصة في ظل اقليم هش بكل المعايير. دول بحكومات طائفية و مذهبية استبدادية و تكوينات اجتماعية محددة باستقلالية سياسية و عسكرية تفوق الدولة و لا ننسى هنا الجوار المعادي الاسرائيلي الفاعل في القرار الدولي.
3- في المتلازمتين السابقتين, بين الثابت كبقاء الوضع على ما هو عليه و المتحول كطبيعة انتقال الصراع و احتمال خروجه عن السيطرة يمكن لنا أن نرسم استراتيجية سورية طويلة المدى و مرنة بحيث تتفاعل مع المتحولات الطارئة, طبعاً إذا أدركنا أننا كسوريين العامل الحاسم في هذا الصراع و إيماننا بالقدرة على التأقلم و خلق الحلول بحكم الطبيعة الانسانية و بحكم حبنا للحياة و التمسك بحلم الحرية الحمراء.
يقول الرئيس أوباما: (أن الصراع في سورية يستنزف حلفاء النظام مالياً و عسكرياً..) و هنا يقصد إيران بشكل خاص و روسيا بشكل أبعد مستدعياً كل خصومه و خصوم اسرائيل إليه حزب الله البناني, القاعدة و تنظيماتها المختلفة و يستدرج دولاً أخرى كتركيا و السعودية و العراق بينما يمتلك هو مفاتيح اللعبة بمجملها دون أن يقدم جندياً أمريكياً واحداً و لا طلقة بندقية فمالذي يجعله ينهي هذا الصراع؟ الجواب عندما يفقد مفاتيح الصراع أو يخل أي طرف بمعادلاته و يحاول كسر التوازنات و هذه نقطة يمكن البناء عليها لاحقاً. لكن من هي أطراف الصراع التي لها المصلحة في إنهائه؟
الجواب هو الطرفين الأساسيين, أولاً النظام ليعيد عقارب الساعة لما قبل آذار 2011 و هذا صار وراء الجميع. ثانياً الثورة و من يمثلها على الأرض و هذا بيت القصيد.
كل يوم نسمع بشهيد لم نسمع به من قبل, مقاتل على الجبهات, ناشط مدني, إعلامي كوادر طبية, أليس هذا مؤشر مهم على أن الثورة لم تهاجر كما اضطر الكثيرين هرباً من العنف و التهديد بالتصفية؟ و هل هناك شعب يهاجر كله كما تهاجر الطيور؟ على العكس, هناك الكثيرين عادوا و الكثيرين يفكرون بالعودة.
كتب أحد العائدين بأن الحل يكون بتحقيق ثلاث خطوات أساسية لإخراج الثورة السورية من مأزقها:
1- الثقة بمن بقي على الأرض وترتيب شؤون البيت الثوري السوري
2- نسف المعارضة الخارجية من الجذر والاحتفاظ بعدد محدود وفاعل منها كمكتب اتصال خارجي
3- إناطة قيادة العمل العسكري بالداخل حصرا والعمل انطلاقا من الداخل ومن يحس أنه مستهدف وهرب للخارح….. فليبق فيه.
نعم, إنه بداية الحل للصراع في سورية و جوهره. الثورة و ثوارها في الداخل, و من يريد أن يبقى في الخارج و لا يستطيع العودة فليبق و لكن لا يتعيش على الثورة و يبني ثرواته باسمها. لقد أصبحت المؤسسات التي تتحدث باسم الثورة عالة على الثورة و متضخمة كأي من مؤسسات الدولة العفنة و لا أحد ممن يتقاضى مبالغ طائلة شهرياً يريد لهذا الصراع أن ينتهي. هذه الحقيقة و لندع الكلمات المنمقة جانباً لأننا وصلنا إلى حدود ضياع الوطن.
هناك الكثير من الشرفاء مازالوا في الداخل و يمكن التعامل معهم و إفساح المجال لهم لتشكيل نواة العمل الثوري بكل أشكاله عسكري, مدني, إغاثي و الأهم سياسي بأسس وطنية سورية خالصة بعيدة عن الأجندات و أجهزة الاستخبارات و طاردة لأي فكر متطرف أو استبدادي و يمكنها استقطاب كل المقاتلين و الناشطين الذي اضطروا للعمل مع المجموعات الأخرى و إعادة تثقيفهم و توعيتهم. الثوار في الداخل سيجدون سبل العمل و آلياته ليحموا بها أنفسهم و ثورتهم و يحافظوا على الوطن و ما علينا جميعاً سوى تأمين ما يحتاجونه و لن نعدم الوسيلة.
كل عمل في الخارج لا يصب في الداخل السوري هو عبث و مضيعة للوقت و الثمن يزداد مضرجاً بالدماء السورية. ثقتنا بالثورة و بالثوار في الداخل و بدعمنا لهم ستتغير موازين الصراع و سنستعيد مفاتيحه من الآخرين و بتحقيق سبل إعادة السوريين من حياة اللجوء البغيضة للبدء بإعادة الإعمار و تفعيل الدورة الاقتصادية و الانتاجية لتأمين وسائل الصمود النصر و الأهم تكريس الخطاب الوطني الموجه لكل السوريين حتى مع من لا يتفق معنا.
هنا يمكن أن نتعامل مع المتحولات حسب ثوابتنا الوطنية التي نادى بها السوريين الأحرار منذ ثلاث سنوات بفطرتهم, حرية كرامة مدنية ديمقراطية عدالة, لكل السوريين.
١٤ مارس ٢٠١٤
——-
(*) خالد قنوت هو كاتب سوري
/ عن صفحته في فيسبوك