سعادة؛ الدين والدولة… العروة الوثقى والجنسية الدينية ../ سمير صادق
تعرض انطون سعادة الى مفهوم الجنسية الدينية في كتابه نشوء الأمم كتب موضحا موضوع العروة الوثقى ( جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ) , اليكم ملخص ماكتب .
إنّ دعوة أساتذة «الجنسية الدينية» إلى إعادة دولة الدين المحمّدي قد باءت بالخيبة كما باءت بالخيبة دعوة دولة الدين المسيحي. فقد دعا صاحبا «العروة الوثقى» العلماء (علماء الدين) لفعل الخير الذي هو في عرفهما الخير كلّه وهو: «جمع كلمة المسلمين». وناديا، في مقالة «التعصّب»: «هذه هي روابطكم الدينية لا تُغرّنكم الوساوس ولا تستهوينّكم الترّهات ولا تدهشنّكم زخارف الباطل, ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم واعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي! (العروة الوثقى صفحة ١١٢ ).
لم يكن وهم اعظم من وهم هذه الرابطة الدينية في معترك حياة الأمم, ولم يكن غرور أسوأ مصيرًا من هذا الغرور, فهل اجتمع التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي؟ كلاَّ, ذلك لأنّ الروابط الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية كانت أقوى من الرابطة الدينية في جميع الأديان على السواء, وحين كانت الخلافة العثمانية قائمة ولم يكن للرابطة الدينية من غرض سوى تسخير الشعوب الإسلامية الأخرى لخدمة مصلحة تركيا فقط, لذلك انتفضت الأقطار العربية على تركيا ,وفي حين كانت الرابطة الدينية وسيلة لبسط النفوذ التركي ,كانت في الوقت عينه عبئا على السلطنة العثمانية التي رزحت تحته, إذ لم تستطع أن تكون من الجماعات الإسلامية شعورا واحدًا في المسائل السياسية والاقتصادية ,كان ذلك برهانا قاطعا يكذِّب قول صاحبي «العروة الوثقى» وهو: «لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي, والفارسي يقبل سيادة العربي, والهندي يذعن لرئاسة لأفغاني».
للرابطة الدينية قيمة فعلية في الشؤون الدينية البحت فقط, أمّا في شؤون الحياة الاجتماعية الاقتصادية السياسية , فالرابطة القومية, ، هي الرابطة الوحيدة التي تكفل حرية الأمم وحقوقها, وتجهّزها بجميع وسائل الفلاح, وحيث تخيب الرابطة القومية لا يمكن أن تصيب الرابطة الدينية, لأن الرابطة الدينية تهمل الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والنفسية الاجتماعية,أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفّل بحفظه,
حبط مشروع الجنسية الدينية والوحدة الإسلامية, لأنّه مشروعٌ خارجٌ عن الشؤون الدينية البحت وداخل في مسائل لا يصلح الدين لها , لأنها ليست مسائل دينية,فلا يمكن التوفيق بين مطامح السوري ومثله العليا ومطامح التركي ومثله العليا,ولم يمكن توحيد عقليات الجماعات الإسلامية من هندية وعربية وفارسية وتركية وغيرها,ولا توحيد شعورها وحاجاتها ومشاريعها, فكان لابد من حبوط فكرة العصبية الدينية والدولة الدينية, ولا نقول إنّ فكرة الدولة الدينية لا يمكن أن تقوم في الإسلام المحمّدي فقط، بل في المسيحية أيضًا, وفي كلّ دين على الإطلاق.
بعد حبوط دعوة مدرسة الدولة الدينية والجنسية الدينية إلى «جمع كلمة المسلمين» وتوحيد السوريين والأتراك والمصريين والفُرس والأفغانيين والمغربيين والهنود الخ, رأى أتباع هذه المدرسة أن يلجأوا إلى مبدأ البديل أو التعويض, فقرروا المناداة بجامعة اسلامية أقل اتساعا من مدى الفكرة الأولى, فنادوا بالعروبة على أساس الاسلام , متخذين من العنصر اللغوي دعامة جديدة لفكرتهم الأولى الدينية المعدلة , وهذا التعويض بالجامعة الدينية اللغوية عن الجامعة الدينية البحت لم يقصد منه التخلي عن الفكرة الأولى, بل القصد منه الاقتناع بالأقل لاستحالة الأكثر, وفي بعض مجادلات أصحاب هذه المدرسة لا يندر أن نجد هذا التعبير «وطن المسلمين القرآن». وهم يجدون في «العروبة» بدلاً ظاهريا لا يبعد عن الفكرة الأساسية, بل صالحا كل الصلاح لها, إذ لم يكن للعرب شأن تاريخي الا بواسطة الدين, ولم تنتشر اللغة العربية الا بالدين, فالعروبة لا تعني عندهم غير الحركة الدينية التي قام بها الرسول , ولذلك لا تخلو كتاباتهم وخطاباتهم من إيراد الإسلام مقرونا بلفظة العروبة أو العرب الا في ما ندر, ومع ذلك فأكثرهم يحاولون أن يكونوا ديبلوماسيين ويقولون إنّ العروبة لا تعني الاسلام , وأنه لا دخل للدين بها , أي إنّها دعوة يمكن أن تشترك فيها الأقطار العربية بكل جماعاتها الدينية بدون تمييز بين دين ودين, ظانين أن مثل هذا الكلام البسيط يكفي لخداع الجماعات غير الاسلامية , انهم يجهلون أنّ مثل هذه الحيلة لا تجوز على المحقق في العلوم الاجتماعية والسياسية ,وإن جاز على بعض البسطاء.
إنّ اتحاد أقطار لا رابطة بينها في الجغرافيا أو الاجتماع أو الاقتصاد أو النفسية, ولا صلة لها بعضها ببعض إلاّ صلة الدين المدعومة بشيوع اللغة, لا يمكن أن يكون له غرض آخر غير غرض الدين, وإنّ الجماعات القليلة التي تنتمي إلى أديان أخرى لا يمكن أن يكون لها أي شأن أو حقوق في دولة دينية ليست من دينها, خصوصًا وأصحاب نظرية هذه الدولة الدينية يجاهرون بأن الغرض من دولتهم الدينية هو التغلُّب على أهل الأديان الأخرى «منازعة كلّ ذي شوكة في شوكته» «وإنّ الديانة الإسلامية وُضِع أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح», ولما لم تكن الدعوة «العروبية» غير بديل من الدعوة إلى الدولة الدينية, لم تتمكن من تحديد أصول ثابتة لفكرتها , لذلك نرى أصحاب هذه الفكرة يلجأون إلى التعديل عند كل صعوبة تصطدم بها دعوتهم,فهم تارة يطلقون القول على جميع الشعوب المتكلمة العربية, وطورًا يحصرونه في منطقة أصغر, فيقولون بتشكيل دولة واحدة من سورية ومصر وغيرهم , ثمّ يصغرون هذه المنطقة عند الحاجة فيجلعونها مقتصرة على سورية وغيرها .., أمّا في الأقطار الأخرى المستقلّة فقد تحوّلت «العروبة» إلى لفظة يقصد بها الدعوة للدولة القائمة والتغرير بالسوريين وغيرهم, ففي مصر، مثلاً, العروبة على أنواع, منها العروبة المصرية الاقتصادية التي تقصد إدخال سورية وغيرها تحت سلطة الرسمال المصري بواسطة المصارف المصرية وغيرها من الشركات, ومنها العروبة المصرية السياسية, وغرضها إيجاد خلافة اسلامية في مصر تضم إليها ما أمكن من الأقطار المجاورة,وقد ذرَّ قرن هذه العروبة بطلب إلحاق فلسطين بمصر وتفكيك الوحدة السورية.
نكتفي بهذين المثلين اللذين يمكن اتّخاذهما قياسا للعروبات في الأقطار الأخرى, وهذه الحقيقة توضح مقدار التصادم بين الجنسية الاجتماعية أو العصبية القومية والجنسية الدينية, ففي مصر توجد دولة محمّدية, وفي العربة توجد دولة محمّدية, وكذلك في سورية, ولا يوجد بين هذه الدول خلاف على الرسول ولا على القرآن, ومع ذلك فان الدين لم يستطع توحيد هذه الدول, والسبب هو في العوامل الجغرافية والتاريخية والسياسية والنفسية وغيرها, هذه العوامل هي التي لها الغلب على الدين في الشؤون الدولية لأنّ الدولة شيء اجتماعي – اقتصادي – سياسي قبل كل شيء.
العروبة ليست سوى حلم دولة دينية اسلامية محدودة, بدلاً من الدولة الدينية المطلقة التي حلم بها أصحاب مدرسة الرجعة,وهذه العروبة الدينية التي تزيد الشقاق والتنافس بين الأقطار العربية, وتمنع التفكير القومي من النموّ وفتح الآفاق للأمم العربية اللسان, هي نكبة أو لعنة لجميع الأقطار العربية على السواء, كما أنها تغرير بالمسلمين ليسيئوا فهم دينهم ويضحوا روحية الدين في سبيل أغراض دولة دينية لا محل لها إلاّ في الأقوام غير المتمدّنة,