مصطفى السباعى رائد (العلمانية المؤمنة) / محمد جمال باروت (*)
طور هذا الفهم (1) مؤسس الجماعة (الإخوان المسلمون) فى سورية ومراقبها الأول الشيخ مصطفى السباعى، ليقول بأن التشريع الإسلامى “علمانى”. وكان يقصد فى ذلك تحقيق المصالح وليس المرجعية التنويرية. ويقول السباعى تحديداً فى هذا المجال:”إن الإسلام فى تشريعه مدنى علمانى يضع القوانين للناس على أساس من مصلحتهم وكرامتهم وسعادتهم، لافرق بين أديانهم ولغاتهم وعناصرهم” . وتشكل شرعنة المصلحة أينما وجدت معيار هذا” التشريع”. والواقع أن السباعى وإن لم يكن(أصولياً) بمعنى أنه لم يكن من علماء الأصول، لكنه وضع (المصلحة) أصلاً قائماً فى حد ذاته فى الإنتاج الفقهى للأحكام. وتخطى حدود الفهم القياسى للمصلحة، واعتباره فرعاً لا أصلاً، وتصور مقاصد الشريعة منشئةً للحكم وليس مجرد مظهرة له فى آليات القياس الأصولية. وبذلك كان محطة أساسية فى تطوير نظرية (مقاصد الشريعة) وتحريرها من ثقل (النموذج الأصولى) الذى أرساه الإمام الشافعى. كان السباعى يميز برهافةٍ بين المفهومين الإجرائى والمعتقدى للأفكار الحديثة. كان يقبل الشيوعية دون تردد، لكن من دون قبول مرجعيتها النظرية والفلسفية المادية فى نظرية المعرفة. وبهذا المنهج نفسه قبل العلمانية، وقبل كامل معاييرها المؤسسية للدولة الحديثة، وكأنه يقول إن العلمانية ليست مسألة” فكروية” مرهونة ببوتقة معتقدية تنويرية لازمة وضرروية، بل هى مسألة اجتماعية- سياسية- مؤسسية لتنظيم العلاقة بين الدينى والزمنى فى الاجتماع البشرى قاربها كل مجتمع فى ضوء محدداته الثقافية والتاريخية. والحقيقة أنه لم يختلف مع العلمانية مطلقاً بل مع العقيدة العلمانية، واتفق بشكل تام مع وظائف العلمانية الأساسية. لكنه احتفظ بحق أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام وليس أن يكون الإسلام دين الدولة.
أسس السباعى ذلك على منظور جديد للعلاقة بين الإسلام والهوية فى مجتمع متعدد دينياً ومذهبياً وثقافياً. ميز بين ما سماه بــ “الإسلام الكنسى” و”الإسلام الحضارى”، واعتبر أن”الإسلام الحضارى” شامل لجميع أفراد الأمة مهما كان دينهم، بينما “الإسلام الكنسي” أو”الطقسى” خاص بالمسلمين. وفكر بالإسلام كـ “فلسفة حضارية” . والواقع أن السباعى كشف عن اتجاه مبكر للتفكير بتحويل الجماعة فى سورية إلى نمط من حزب ديموقراطى إسلامى على غرار الأحزاب الديموقراطية المسيحية فى الغرب. وكانت هذه إمكانية تحتملها الجماعة فى ضوء المفهوم الإجرائى للعلمانية، لكن بشكل مستقل عن المرجعية المعتقدية العلمانية. وبذلك كان السباعى من أوضح رواد” العلمانية المؤمنة” فى الفضاء الإسلامى فى الخمسينيات من القرن الماضى. وتمثل سياق ذلك فى احتدام الصراع داخل الجمعية التأسيسية السورية (1950) حول العلاقة بين الدين والدولة. السباعى هو من تصدر تعديل فقرة الإسلام دين الدولة إلى الإسلام دين رئيس الدولة، ودافع طيلة حياته عن إسلامية هذا الدستور. ألقى السباعى أكثر من محاضرة حول ذلك لكن محاضرته فى بيروت 1953 حول الفصل بين الدين والدولة أتت بياناً علمانياً خالصاً فى حال استئناف التميز بين العلمانية والعلمانوية، وبشكل أدق بياناً منهجياً فى (العلمانية المؤمنة)، على مستوى خطاب التقدم والحداثة بمجمله وليس الخطاب الإسلامى وحده. وكان يطرح ذلك ليس من موق الفكروى، بل من موقع الممارس الذى انشق قسم فاعل من جماعته بدعوى ليبراليته التحالفية والسياسية والفكرية، والذى كان انشقاقه مرتبطاً عضوياً بالجناح المؤيد لجمال عبد الناصر (1952-1953) يومئذ فى ثورة 23 تموز/ يوليو 1952، الذى كان نافذاً فى ماسمى “النظام الخاص” شبه العسكرى الردايكالى فى الجماعة، والذى تمرس بالكفاح الوطنى فى معارك القنال. حاول هذا الجناح أن ينشىء يومئذ له قواعد فى سورية، ووقف خلف عملية الانشقاق الأولى، ومحاولة الانقلاب على قيادة السباعى الليبيرالية للجماعة فى سورية. بكلام آخر لم يكن ما طرحه السباعى فلتة نظرية؛ بل رؤية مبكرة لحزب إسلامى ديموقراطى يعمل ضمن القواعد القانونية والبرلمانية والدستورية فى نظام ديموقراطى. بينما الحركة الشيوعية كانت طبقية ولم تطرح المسألة العلمانية كبند استراتيجى لها، وإن كانت أهدافها علمانية فى النهاية. وحده الحزب “السورى القومى الاجتماعى” نصّ بوضوح تام فى عقيدته على العلمانية.
خلاصة ذلك أن العلمانية فى فترة نهوض القوى الفاعلة الجديدة المستندة إلى الفئات الوسطى بدءاً من الثلاثينيات لم تشكل بنداً مباشراً فى برامجها أو قضاياها. لكن الشرائح النشطة فى هذه الفئات دفعت عملية دنيوة العالم، أى العلمانية أو الدنيوية بوصفها سيرورة، بينما استوعبها الخطاب الإسلامى ضمن الهجوم الشديد عليها فى صيغة الجمهورية الثالثة، وطرح المصلحة والمقصد كبديل منها إسلامياً. ومن المفهوم أن تكون القطيعة حادة بالنسبة إلى الخطاب الإسلامى مع العقيدة المرجعية لفكر التنوير المعادى للدين والمفكك له. ولكن مصطفى السباعى فاق كل جيله على الإطلاق فى أنه كان الوحيد الذى انفرد بطرح مسألة العلمانية فى ملعب مبسوط عن سائر اللاعبين فى جيله، وهو جيل الكبار الذى لم تشكل هذه المسألة قضية أصولية له. وفى تاريخ الفكر السياسى فإن السباعى هو الوحيد بين الممارسين والقادة الذين طرحوا ذلك. ولكن السباعى تحول إلى” صرخة فى واد” بتعبير الكواكبى.
(**) المقال أعلاه جزء من مقال للكاتب بعنوان ” فى العلمانية المؤمنة: محاولة فى تحرير العلمانية من العقيدة العلمانية”
———
(*) محمد جمال باروت هو باحث وكاتب سوري
(1) يقصد الفهم العربي/الإسلامي للعلمانية
/ عن موقعة “معرفة”