البوتينية ونماذجها الثلاث في الشرق الأوسط/ حازم الأمين (*)
ليس صدفة أن تتقارب مواقف دول شرق أوسطية مثل ايران والسعودية وإسرائيل في مواقعها من الغزو الروسي لأوكرانيا! فالشرق الأوسط هو أكثر المناطق التي تمكن فلاديمير بوتين من مد علاقات فيها مع الأنظمة، وأقام فيها مسارح نفوذ متفاوتة ولكن صلبة. تحالف مع إيران في سوريا، وأقام صداقة متينة مع حكومات تل أبيب، وشراكات ومصالح مع أنظمة الخليج العربي. والنتيجة موقف إيراني إلى جانب بوتين في الغزو، وان كان غير حاسم، ومساع إسرائيلية لإنقاذ الصديق الجانح في الكرملين، بينما يمارس الخليج تقية وصمتاً مريبان تراوحا بين ترحيبه بالحرب بوصفها مصدراً لعائدات إضافية بسبب ارتفاع أسعار النفط، وبين مشاعر انحياز ضمني ومراوغ لـ”الصديق الروسي”.
لكن لتقارب المواقف غير المنسق هذا وجه آخر يعنينا أكثر مما يعني العالم، ويتمثل في أن هذا التقارب صادر عن أنظمة تختلف في طبيعتها، وتتشابه في درجة قربها مما يمثله فلاديمير بوتين على هذا الكوكب. فزعيم الكرملين يمت بشبه للنموذج التوسعي لليمين الإسرائيلي في سعيه لابتلاع القدس والضفة الغربية، وهو غير بعيد عن نظام الملالي في طهران سواء لجهة علاقته بمواطنيه أو بنفوذه وطموحاته خارج الحدود، أما صلته بالإمارات والممالك الخليجية فمستمدة أيضاً من طبيعتي الأنظمة الأوليغارشية في روسيا والخليج، ومن قطيعة مع أي التزامات تسوقها غير مصالح النخب والعائلات الحاكمة.
والحال أن البؤر الشرق أوسطية الثلاث، أي إيران وإسرائيل ودول الخليج، تقيم في مقابل خذلانها أوكرانيا، علاقات متفاوتة ولكن صلبة مع الغرب. الخليج وإسرائيل يرتبطان معه بتحالف عضوي، فيما باشرت طهران مفاوضات من المفترض أن تفضي قريباً إلى اتفاق يحدد مستقبل علاقاتها السياسية والاقتصادية مع هذا الغرب. ويبدو واضحاً أن هذا الغرب بعد الغزو الروسي لن يكون هو نفسه قبلها، أو هكذا نأمل. الدرس الأوكراني من المفترض أن يكون قد أحدث فارقاً في فهم أوروبا لنفسها وفي استيعابها الطريق الذي سلكه بوتين إلى كييف وما يعنيه ذلك من احتمالات زحفه غرباً.
الشرق الأوسط هو أكثر المناطق التي نجح بوتين في إنشاء شبكة علاقات فيه معتمداً على طبيعة الأنظمة وعلى قابليتها لاستقبال نفوذ من خارج ما تمليه العلاقات مع الدول الكبرى من شروط ومن قواعد في التعامل. فإسرائيل لا تمانع من تحالفه مع طهران في سوريا وتنظم معه شكلاً من العلاقة فيها قائم فقط على تصريف المصالح الأمنية. هذا تماماً ما تفعله طهران من خلال تصريفها حاجات عدوها عبر صمتها عن الضربات الإسرائيلية المتواصلة واليومية في سوريا. نحن هنا حيال نوع مافياوي من العلاقات البينية بين هذه الدول. أما دول الخليج، فأكثر ما يريحها في بوتين فهو انعدام الشروط غير الريعية في العلاقة معه.
لكن وفي طريق العودة من الحرب الأوكرانية سيكون سهلاً على الأنظمة الشرق أوسطية الثلاث مباشرة خطوات ابتعاد عن الحليف غير المعلن في الكرملين، ذاك أن المصالح العارية من أي التزامات، والتي أملت العلاقة معه ستنقلب. بوتين “القوي” هو من جعل من العلاقة مع روسيا مصلحة، ومن استدرج طهران والرياض وتل أبيب، أما بوتين المحاصر والملوح بالسلاح النووي فلن يشكل إغراء.
مؤشرات الابتعاد بدأت تلوح من الخليج الذي وصله رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون بحثاً عن مصادر بديلة للنفط الروسي، ومن الصعب ان لا تستجيب أبو ظبي والرياض، تماماً مثلما استجابت فنزويلا للعرض الأميركي. فالعلاقة مع العالم تتقدم نزوة العلاقة مع بوتين، والمصالح هناك فرصة لا يمكن تفويتها، والأسواق لا تقيم وزناً لغير العائدات.
لكن هذه الدوامة تنطوي أيضاً على احتمالات مواصلة الشروط التي أنتجت البوتينية. فالعالم سيعيد تعويم أنظمة سبق أن اختبر نموذجها في أوكرانيا. النظام في إيران في طريقه لالتقاط أنفاسه، وأنظمة الخليج سيجري ضخ مزيد من الثروات في خزائن حكامها، وإسرائيل التي استثمرت في البوتينية في سوريا لن يعيق غاراتها تعثر زعيم الكرملين في أوكرانيا، لا بل أن تعثره سيدفعه إلى مزيد من التنازلات لها.
لكن الرهان يبقى على أن الصدمة التي أحدثها غزو أوكرانيا من المفترض أن تدفع العالم إلى سؤال نفسه: كيف ولد الوحش؟ فهذا العالم لم يضع شروطاً لاستيعاب البوتينية في دوراته السياسية والاقتصادية والمالية! تعامل معها كمصدر لتعزيز الثروات ولهضم التركة السوفياتية، من دون أن يبدي حساسية حيال صدورها عن قطيعة مع كل القيم الليبرالية. الاستعاضة عن البوتينية بالأنظمة الاوتوقراطية في إيران والخليج، ومواصلة الصمت عن النظام التوسعي في إسرائيل، تفتح الباب أمام غزوات مشابهة لغزو أوكرانيا.
———-
(*) خازم الأمين هو صحافي وكاتب لبناني