الاصلاح بين حاجات الداخل والزامات الخارج.. / جاد الكريم الجباعي (*)
تثير قضية الإصلاح في العالم العربي جدلاً واسعاً في صفوف النخب العربية، ويعيِّن الجدل الدائر، في الأعم والأغلب، أو يعيد تعيين الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية التي أنتجتها ردود الفعل المتأخرة على “صدمة الحداثة” والاستلاب السلفي والاستلاب إزاء “الغرب” وعقدة الهوية والرضوض أو الجراح النرجسية التي أصابت الذات العربية جراء الهزائم المتتالية بدءاً بهزيمة الجيوش العربية في فلسطين عام 1948 إلى احتلال العراق. وإذ تلح الحاجة إلى الإصلاح في جميع البلدان العربية تمعن الحكومات ودوائر واسعة من النخب في ممانعتها وترددها متذرعة برفض إملاءات الخارج والتصدي لمخططاته ومؤامراته واضعة نفسها وشعوبها في مأزق لا تستطيع معه التقدم على طريق الإصلاح ولا تلافي إملاءات الخارج، فتتحول العلاقة بين الداخل والخارج إلى قضية سجالية كقضية جنس الملائكة وجنسيتهم وشكل أنوفهم ولون عيونهم.
فقد كان لانفكاك فكرة “الثورة القومية” أو “الثورة الإسلامية” أو “الثورة الاشتراكية” التي استحوذت على الوعي السياسي العربي طيلة نصف قرن عن فكرة الحداثة ومبادئها وقيمها ومناهجها أثر حاسم في إنتاج وعي فصامي يمتح من مرجعيات معرفية وثقافية تقع كلها خارج الزمان والمكان العربيين، وفي إنتاج أنظمة حكم تسلطية أو سلطانية قوامها “الاحتكار الفعال لمصادر السلطة والثروة والقوة”، بتعبير خلدون حسن النقيب. وقد تضافرت أنظمة الحكم التسلطية والوعي الفصامي السائد لدى سائر الشعوب العربية في تعميق التأخر التاريخي وامتهان الشعوب العربية وإخراجها من عالم السياسة، وإنتاج القابلية للهزيمة والقابلية للاحتلال، أو “القابلية للاستعمار” بتعبير مالك بن نبي، أو للاستقواء بالخارج على الداخل في أحسن الأحوال. بل يمكن القول إن هذا التضافر قد أعاد إنتاج “المسألة الشرقية” في عالم تتعمق وحدته باطراد ولا يسمح بوجود مناطق فراغ من أي نوع.
لا أحد يبتكر جديداً حينما يتحدث عن “فراغ الشرق الأوسط” وعن الفجوة التي تفصله عن العالم المعاصر، أو حينما يتحدث عن التاريخ الكسيح أو المتخثر الذي جعل من هذا “الشرق الأوسط” سماداً لتاريخ الآخرين، ولكن الجديد هو أن نعيد التفكير في مقولة “فراغ الشرق الأوسط” التي استدعت مقولة “الشرق الأوسط الكبير” الأمريكية، بعد مقولة “الشرق الأوسط الجديد” التي طرحها بيريز، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، انطلاقاً من التأخر العربي القائم الذي يتقدم باطراد، لا انطلاقاً من “أطماع الدول الكبرى ومخططاتها ومؤامراتها”، فهذه الأخيرة حقيقة تاريخية كانت ولا تزال قائمة منذ كانت الدول، ومنذ كان لكل من الحق بقدر ما له من القوة. ألم يكن تقرير التنمية البشرية الذي صدر عن الأمم المتحدة عام 2002 الأساس الذي صيغ في ضوئه مشروع الشرق الأوسط الكبير؟
لم تخل العلاقات بين الدول، ولا تخلو اليوم من علاقات كيدية ومن أطماع ومن نزعات إمبريالية، نزعات توسع وسيطرة ونهب، ولكن الدول المغلوبة على أمرها لم تكن ضحية قوة غالبيها فقط، بل ضحية ضعفها وعجزها أساساً، وكانت كل مواجهة بين دولتين اختباراً شاملاً لقوى كل منهما، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتقنية والتربوية والسياسية والتنظيمية والتعبوية، وكانت نتائج كل مواجهة محصلة موضوعية لنسبة القوى فحسب. نسبة القوى كانت دائماً، ولا تزال، كلمة السر لجميع الانتصارات ولجميع الهزائم، لا إرادات القادة ولا برامج الأحزاب ولا رغبات المثقفين.
من البديهي، في ضوء هذه الحيثيات، أن تغدو قضية الإصلاح قضية هامشية مقطوعة الصلة بقضايا النهوض والتقدم والاندماج في العالم المعاصر والتاريخ المعاصر والاعتماد على الذات وتوفير الشروط اللازمة للاعتماد المتبادل على أساس الندية وتكافؤ الفرص، والاستثمار الأمثل للموارد البشرية والطبيعية، وأن تقتصر في أحسن الأحوال على إصلاحات قطاعية وانتقائية هنا أو هناك، أو على ترميم “مشروعية” الأنظمة القائمة وحقنها بمنشطات تطيل حياتها وتديم عسفها ونهبها وتسلطها على مقدرات البلاد والعباد، مع أن هذه الأنظمة لم تكن في واقع الأمر سوى مفارقة تاريخية، ولم تكن الرموز التي أنتجتها هذه الأنظمة سوى مسوخ لصورة البطل الرمزي التي يستبطنها الوعي السياسي العربي.
إصلاح من الداخل أم إصلاح من الخارج؟ ذلكم هو السؤال غير المنطقي، حتى بمعايير المنطق الصوري، الذي تلوكه الألسن اليوم في جميع المحافل العربية، السؤال الذي يتحول بمقتضى صيغته الداخل والخارج إلى مقولتين متضادتين أخلاقياً وسياسياً، أي إلى طباق، بالمعنى البلاغي العربي، ينفي كل من طرفيه الآخر نفياً قطعياً، مبدئياً ونهائياً، الخارج، الآخر، هو الشيطان الرجيم. ويتدفق سيل الكلام يقسم العالم العربي، بمنطقه الثنوي، إلى أنظمة وطنية وشعوب خائنة بالقوة أو بالفعل، ما دامت هذه الشعوب قد ضاقت ذرعاً بحكامها الذين جرعوها كؤؤس الذل والهوان. ويرغي سيل الكلام ويزبد يضع الوطنية في دائرة الداخل، أي في صف الاستبداد، والديمقراطية في دائرة الخارج، أي في صف الاستعمار، ويضع القوى الديمقراطية، من ثم، في حرج أخلاقي ما بعده حرج، لا سيما أن هذه الأخيرة لا تزال عاجزة عن أو غير راغبة في إعادة التفكير في “المسألة الشرقية” واستخلاص دروسها، ولا تزال عاجزة عن وغير راغبة في جعل فكرة الإصلاح عنواناً لعمل تاريخي أو لمشروع نهضوي ممكن وواجب. وينتهي بنا المنطق الثنوي إلى نتيجة مفادها أن الإصلاح من الداخل غير ممكن موضوعياً، والإصلاح من الخارج غير مقبول ذاتياً، وقولنا غير مقبول لا يعني أنه غير ممكن، أي إن المنطق الثنوي ينتهي إلى إدامة التأخر وإنقاذ أنظمة الحكم التسلطية التي ما فتئت الدراسات الجادة تصفها بأنها جزء من نظام الأمن القومي الأمريكي، ومن ثم فإن أي تغيير محتمل سيكون محكوماً بدواعي الأمن القومي الأمريكي، بخلاف تطلعات الشعوب العربية ورغبات القوى الديمقراطية، فالتاريخ توقيع لممكنات، لا ترجمة لنوايا ورغبات. ولكن هذا التغيير لن يكون أصلاحاً، بالمعنى الذي يمكن أن يستشفه القارئ، وأرجو أن يستشفه، لمفهوم الإصلاح.
الداخل والخارج مقولتان واقعيتان، تتعين كل منهما بالأخرى، وهما، من ثم، مقولتان جدليتان، أي تناقضيتان، ينتج من جدلهما في كل لحظة من لحظات التطور التاريخي تركيب جديد تتغير معه شكلاً ومضموناً لا علاقة الداخل بالخارج فحسب، بل علاقات الداخل الداخلية أيضاً، إذا لم يكن العرب أو المسلمون نوعاً قائماً بذاته مختلفاً عن بقية بني آدم، وإذا لم يكن العالم العربي أو الإسلامي عالماً قائماً بذاته خارج العالم.
العرب كينونة / كينونات اجتماعية في العالم وفي التاريخ، أي إن لوجودهم المباشر والراهن بعدين متلازمين: بعد في الزمان هو التاريخ، لا تاريخهم “الخاص” فحسب، بل تاريخ النوع البشري، وبعد في المكان هو العالم، شأنهم في ذلك شأن سائر الشعوب والأمم، ومن ثم فإن أشكال وجودهم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والسياسية أو ما يسمى هويتهم القومية أو الثقافية أو الحضارية هي محصلة هذين البعدين معاً، ما من ذلك مفر. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، بحكم الواقع، يغدو من الضروري إعادة التفكير في العلاقة بين الداخل والخارج في ضوء هذه الحقيقة، وإعادة التفكير من ثم في الهوية القومية أو الهوية الثقافية أو الهوية الحضارية على الأساس ذاته، إذ إن أهم ما يشغل النخب العربية اليوم، ولا سيما النخب المحافظة، وهي الأكثر قوة ونفوذاً، هو التهديد المتوَهَّم الذي يحمله الإصلاح للهوية القومية أو الهوية الإسلامية، ولعل هذا الوهم أو التوهم من أكثر العقبات كؤداً في طريق الإصلاح.
تتماهى، في وعي النخب العربية المحافظة، الهوية القومية والتأخر التاريخي، وتتماهى في وعيها أيضاً الوطنية والاستبداد، فيغدو رفض الإصلاح من الخارج حقاً يراد به باطل، وتغدو القوى الديمقراطية، على ضعفها وهزالها وهشاشة وعيها الديمقراطي، بين سندان الداخل ومطرقة الخارج، فإن مشروع الإصلاح الديمقراطي الذي يستجيب لحاجات الداخل ويتوافق مع إيقاع العصر، والذي لم يتبلور بعد هو المستهدف من أنظمة الحكم التسلطية ومن الضغوط والمداخلات الأمريكية سواء بسواء.
وضعت الأنظمة العربية من يفترض أنها شعوبها على مفترق: إما دوام الاستبداد والعسف والاحتكار والنهب والفساد، وإما الفوضى؛ إما دوام الطغيان وإما ضياع الأوطان، إذا كانت لم تضع بعد. ولا تزال هذه الأنظمة تعمل على ذلك بدأب ومثابرة؛ فكلما أمعنت في تعزيز قوتها باستنزاف قوة المجتمع وإحكام قبضتها على مفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تزداد ضعفاً وهشاشة من جهة، وتراكم عوامل الفوضى والخراب من جهة أخرى. لقد باتت المعادلة واضحة لكل ذي بصر وبصيرة: قوة الأنظمة تعادل ضعف الشعوب، ولا بد لهذه المعادلة من نهاية يتحول معها يأس الشعوب إلى شجاعة، هي شجاعة من لم يعد لديه شيء يخسره، ولم يعد لديه شيء يحافظ عليه أو يدافع عنه.
——-
(*) جاد الكريم الجباعي هو كاتب ومفكر سوري