عندما كان العشق مباحا/ د. عماد بوظو
الذي يشاهد هوس رجال الدين المسلمين في التقييد على المرأة هذه الأيام، مع ما يرافقه من إدخال النساء للسجون من أجل ثوب أو كلمة أو حركة يعتبرها قضاة متزمتون “خادشة للحياء”، وما نتج عن حالة معاداة المرأة من انتشار لجرائم قتل النساء تحت مسمّى “الشرف”، من الطبيعي أن يتبادر إلى ذهنه أن الأوضاع كانت طوال القرون الماضية على هذا الشكل، وأن تحريم وتجريم علاقة الرجل مع المرأة كان سائدا دوما في هذه الجزء من العالم، وبما أن هذه الممارسات تكاد تقتصر اليوم على العرب والمسلمين، فسيحاول إرجاعها إما إلى التركيبة القبلية أو الإسلامية للمجتمعات العربية.
ولكن التاريخ والتراث الإسلامي لا يشير إلى ذلك. ففي القرون الأولى للإسلام كان ينظر للحب كقوة قاهرة ليس بمقدور الإنسان التحكم بها أو كبح جماحها ولذلك كان مكانها عند أهل ذلك الزمن في القلب وليس في العقل. في القرآن وردت كلمة الحب بين الرجل والمرأة في قصة زوجة العزيز التي راودت فتاها “النبي يوسف” عن نفسه لأنه “شغفها حبّا” كما هو مذكور حرفيا في القرآن. وقال الضحاك عن ابن عباس “الشغف هو الحب القاتل والشغاف حجاب القلب”، وبوصول الحب لشغاف القلب تصبح مقاومته بالغة الصعوبة، ولذلك دفعها حبّها وهي المرأة المتزوجة لأن تطلب من حبيبها علاقة ترويها عاطفيا وجنسيا، وحتى نساء المدينة اللواتي لمنها وتحدّثن عن حبها بالسوء فقد تغيّر رأيهن وقدّروا حالتها حين شاهدوا محبوبها.
وشروح المسلمين الأوائل لهذه الآية تكشف عن قناعتهم بأن الحب فطرة بشرية لا أحد يمتلك حصانة منها، ولذلك تفهّموا حبّها كحالة طبيعية وعزوها لجمال الحبيب، بينما رأوا في رفض يوسف لها حالة استثنائية لأنه يتطلب مناعة نفسية قوية لا توجد سوى عند من هم في منزلة الأنبياء.
وفي آية أخرى من سورة البقرة 235 “ولا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا” والتي تدعو إلى تجنب العلاقة مع المرأة في فترة الخطبة، فقد انتهت إلى “أن الله غفور حليم” لمن لم يتمكن من الالتزام بذلك، لأن الإسلام كان متسامحا ولم تكن قد دخلته بعد مفردات من نوع الخلوة الشرعية أو غير الشرعية أو عقوبة الرجم وسواها من البدع التي تم إدخالها على الإسلام في عصور الانحطاط.
وحسب كثير من كتب التراث فإن النبي محمد لم يكن من النواحي العاطفية استثناء، فقد كان يحب زوجته عائشة حبا لا حيلة له فيه، وبرّر ذلك بأنه يعدل بين نسائه فيما يملك وهي الأشياء المادية، ولكنه غير قادر على العدل في الأمور التي لا يملكها وهي حبه لها الذي أرجعه إلى الله الذي هو وحده من يتحكم بما يدور في القلوب. كما أن خديجة حسب التراث الإسلامي قد أحبت الرسول قبل أن تتزوجه وحبها هو الذي دفعها للتقدم إلى خطبته، ففي مقاييس ذلك الزمان لم يكن في الحب ما يعاب.
وتم تأكيد ذلك في الكثير من القصص. على سبيل المثال، ورد في صحيح البخاري أن شخصا اسمه مغيث انفصل عن زوجته بريرة ولكنه بقي يحبها ويلاحقها ويطالبها “ودموعه تسيل على خديه” بالعودة إليه، فقال النبي: “يا ابن عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا، حتى أن الرسول تعاطف معه وسألها أن تراجعه، فقالت للرسول أتأمرني؟ فقال لا إنما أنا شافع، فقالت لا حاجة لي فيه”، رواه البخاري، وقال الإمام العسقلاني في شرح ذلك إن “فرط الحب يذهب الحياء حيث لم يستطع كتمان حبها، ويجب قبول عذر من كان في مثل حاله لأن هذا ليس باختياره”.
ولذلك لم يضع الرسول اللوم على مغيث مع أن حبيبته لم تعد زوجته بل تشفّع له عندها، ولم يلمها كذلك على عدم محبتها له لأن هذا ليس بيدها، وحتى بعد رفضها له لم يمنعه الرسول من حبها لأنه يعرف أن لا سلطة لأحد على ذلك. وقال رجل إلى عمر بن الخطاب إني رأيت امرأة فعشقتها فقال عمر فذلك مما لا يملك، أي لا سيطرة للإنسان عليه، وقد قال ابن القيم في “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”، إن المقصود بالآية “ربنا لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به” هو العشق أو الحب مع الحرمان من الحبيب.
أي أن الحب كان مألوفا وشائعا في فترة صعود ونهضة المجتمع الإسلامي وكان يعتبر من أسرار الله التي يضعها في القلوب وليس عيبا أو عارا، وكذلك كانت تراه بقية الشعوب. فقد وصفه يوربيدس قبل 2500 سنة الحب بأنه الأكثر عذوبة والأكثر مرارة، وقيل في عجز الإنسان عن التحكم به، “يمكنك إغلاق عينيك أمام ما لا تريد أن تراه لكن لا يمكنك إغلاق قلبك أمام ما لا تريد الشعور به”، وقال طاغور، “كلمة واحدة تبقى لي حين أموت، أنني أحببت”.
وعبّر المسلمون الأوائل عن حبّهم بلا مواربة ودون أن يشعروا بأنهم يرتكبون إثما، مثل ابن الرومي الذي قال:
أعانقها والنفس بعد مشوّقة إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول صبابتي فيشتد ما ألقى من الهيمان
وقال الشريف الرضي:
أنت النعيم لقلبي والعذاب له فما أمرّك في قلبي وأحلاك
عندي رسائل شوق لست أذكرها لولا الرقيب لقد بلغتها فاك
وكذلك كان الحب جزءا رئيسيا من تاريخ العرب الذي تدور أغلب أحداثه حول الحب والحرب. والحب في اللغة العربية هو الهوى والشغف والوجد والعشق والغرام والهيام و…. ولكل منها معنى يختلف عن الآخر، ولكن مدلولها واضح ويتضمن بالإضافة للنواحي العاطفية والنفسية جوانب جسدية من العناق والتقبيل حتى العلاقة الجنسية، وخلّد هذا التاريخ عشاقا مثل عنتر وعبلة وكثير وعزة، وعروة وعفراء، وقيس وليلى، الذي سمّي من فرط حبّه مجنون ليلى.
حتى أن أباه أخذه إلى الحج وقال له تعلّق بأستار الكعبة وادع الله أن يشفيك من حبها وفعل قيس ذلك دون نتيجة فقال:
ألست وعدتني يا قلب أني إذا ما تبت عن ليلى تتوب
فها أنا تائب عن حب ليلى فما لك كلّما ذكرت تذوب
وكانت ليلى تبادله هذا العشق وقالت:
كلانا مظهر للناس بغضا وكل عند صاحبه مكين
تحدّثنا العيون بما أردنا وفي القلبين ثمّ هوى دفين
وفي التاريخ الإنساني تزول وتنسى دعوات التزمت وتبقى قصص الحب كملاحم عاطفية وشاعرية تتناقلها الأجيال وتتعاطف وتبكي معها الشعوب، ولا فرق إن كان العشاق عزّابا أو متزوجين، شبّانا أو كهول، ومن أي عرق أو دين طالما كانوا صادقين في مشاعرهم. وفي فترات ازدهار الشعوب وتقدمها ينظر إلى الحب كعلاقة مقدسة محترمة، وعندما تمرّ الشعوب في عصور تراجعها وانحطاطها تسيطر على أجوائها مشاعر الكراهية ويظهر فيها قادة ورجال دين متزمتون قلوبهم مليئة بالغضب يبذلون جهدهم في محاربة الفرح والحياة والحب، وهذا هو العصر الذي يعيشه العرب اليوم.