حوارات وآراء

جدلية العلاقة بين الاستبداد والفساد ، والدولة والمواطنة/ المحامي محمد علي صايغ

الاستبداد دائما يبدأ عندما تختفي سلطة القانون ، أو عندما يكون القانون أداة يحركها المستبدون كما يشاؤون ، والفساد يزداد طردا مع تعاظم سطوة الاستبداد ، وكثيرا ما يعم نمط الاستبداد وآلياته المجتمع كله ، وتبعا لذلك تتغلغل مفاعيل الفساد في كيان المجتمع وتتحكم في جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها ، وتصاب القوى المجتمعية والمدنية والسياسية بأمراضهما ، إذ كثيرا ما تكون أمراض النظم متمثلة في كثير من القوى المجتمعية والسياسية .وتعكس صورتها .. لذلك قيل أن الفساد وجها آخر للاستبداد .. إنهما وجهين لعملة واحدة ، فحيثما تجد فسادا كبيرا في أي دولة ستجد استبدادا أكبر ، والعكس صحيح .. إنهما يتحركان ضمن منظومة واحدة ..
وقد يكون أحيانا من اللازم أن تسمح الانظمة المستبدة بتوليد التنظيمات التي تشبهها ، او ان تغض الطرف حتى عن سلوكها العنفي مؤقتا ، ثم تعمل بعد ذلك الى ممارسة عمليات القمع والعنف المركب بمواجهتها من أجل ترهيب الناس وتأديبهم وزرع ثقافة الخوف في عقولهم .
والدولة أي دولة كيان قانوني ينظم أركانها .. وسلطة الدولة ينظمها الدستور والقوانين خدمة لمجموع مواطنيها .. ومشروعية أي سلطة أو حكومة تتجسد في بسط إرادتها وإدارتها على أراضيها .. فلا مشروعية لسلطة منقوصة السيادة مع وجود احتلالات تفرض نفوذها .. ولا مشروعية لسلطة أيضا لا تعترف فعليا بعقدها الاجتماعي والقانوني مع مواطنيها في ان تضمن حياتهم وسبل عيشهم وتنظم مصالحهم ، ومن هنا فلا مشروعية لسلطة الاستبداد التي تتحكم بمصير مواطنيها وتفرض عليهم القمع والقهر وإهدار كرامتهم … ولا مشروعية في نظام دولة يتحكم بها آليات النهب والاختلاس والخطف وتغول السماسرة والمتنفذين في نهب المواطنين ، إذ لامشروعية مع نظام الفساد والإفساد .. ولا مشروعية في غياب الحرية .. حرية الاختيار والتصويت وحرية الترشيح والترشح ، وبالتالي لا مشروعية دون مواطنة متساوية تضمن تكافؤ الفرص .. ولا مشروعية أخيرا في غياب العدالة وقانون عادل يتساوى الجميع أمامه دون استثناء …..
ولما كان الاستبداد الأساس في هدر مشروعية اي سلطة أو حكومة ، ويجعل من المواطنين رعايا واتباع ، ويختصر الوطن كله بشخص المستبد ، ويصبح معيار الوطن والوطنية مرهونا بالولاء له ، عند ذلك يستبدل الولاء للوطن بالولاء للمستبد ، ويفتقد المواطنون للانتماء الوطني ، وتستبدل المواطنة بالمنافسة على المكاسب والامتيازات ، وتتحرك بقوة النوازع الشخصية والدوران حول السلطة لانتزاع المغانم والامتيازات وقبض ثمن الولاء . وفي ظل ذلك تتحرك الصراعات ما قبل وطنية من كمونها ، أي الصراعات العشائرية والاثنية والطائفية والمذهبية ، وفي خلفية الصراع المحتدم تتضخم وتتجسد المظلومية ، وكل طرف يجاري الطرف الآخر في استبداده ونهبه وفرض نفوذه حين يتوفر مناخ ملائم في فرض قوته ووجوده .. وفق مقولة ” ما حدا أحسن من حدا ” وضمن سياق أن الوصول للسلطة – وفق ذهنية القوى الطائفية والاثنية – حق مشروع بكل الوسائل ، والغنيمة ضالة للكل أينما وجدها التقطها تعويضا عن فقدانه لها في مواجهة من يفرض الاستحواذ عليها .
وفي ظل الاستبداد يتجذر الوجود الطوائفي ، والطائفية تخلق المناخ لانقسام الدولة .. وبوجودهما لا تبقى الدولة دولة .. ولا يمكن أن تؤسس الديمقراطية بوجود المحاصصات الطائفية .. لأن الديمقراطية والطائفية صنوان لا يلتقيان فهما مختلفان ومتضادان في الوجود والعدم .
الانتماء الطائفي والاثني المتجذر لا يقبل التغير والتطور أو الانتماء لوطن كلي الوجود .. ووجوده متعلق من متعلقات علوية الانتماء الطائفي أو الإقوامي على الكيان الوطني بما لا يقبل الدمج او الانصهار ضمن كيان وطني واحد ، وبالتالي تشكل وجود الحالة الطائفية او الاثنية حالة انفصام او انفصال عن المجتمع والدولة ، وتتزايد حالة الانفصال مع تفاقم الصراعات بين مختلف المكونات للوصول الى الهيمنة السياسة على الدولة بكليتها أو على جزء منها …
وحيث ان الاستبداد لا يراجع نفسه ، فإن التدمير المجتمعي يزداد اتساعا وشمولا ، ويزداد معه الفساد الداخلي الذي لا يمكن فصله عن آليات الفساد الخارجي .. في عصر العولمة والتوحش العالمي .. وانتهاك سيادة الدول ، وبالتالي الفساد الداخلي يشتغل ضمن منظومة اقتصادية كلية يتداخل فيها المحلي بالإقليمي بالدولي عبر شركات كبرى عابرة للحدود والقارات .. ذلك لان الفساد يرتكز على بنية تتعلق ببنية نظام الدولة ، ولنظام الدولة ارتباطاته بما يجاوز الدولة .. وقد ثبت في كثير من تجارب الدول أن استمرار الاستبداد يقوم على دعم دول كبرى .. هذه الدول هي التي تمده بالاوكسجين لاستمرار بقائه .. وكثير من دول العالم الثالث استمر الاستبداد بدعم الدول العظمى وتم انقاذ العديد من الاستبداديين بفضل هذا الدعم ، طبعا خدمة لمصالح هذه الدول العظمى .. لكن هذه الدول أيضا يمكن أن تتخلى عن أي مستبد واستبداله بآخر حينما ينتهي الدور الوظيفي له ، او حينما يعجز عن أداء ماهو مرسوم له ، كما البدوي حينما يتأكد من أن حصانه لم يعد قادر على أداء دوره كحصان في القفز والجري والتحميل .. الخ فإنه يصبح عالة عليه مما لا يجد بدا من إنهاء وجوده …
وفي سبيل ذلك تدعم الدول الكبرى الأقليات ماديا وعسكريا وإعلاميا وتعمل على تضخيم الذات لديها مقدمة لإدخالها في استعصاء عدم القدرة على القبول بالاندماج الوطني .. ضمن استراتيجية قامت على تفتيت المنطقة ، وإبقاء عواملها قائمة ، والعمل على ترسيخ عدم تماسك عناصر الدولة وخلخلة الانتماء الوطني وتدمير البنى الوطنية والمجتمعية والشعور بالمواطنة ، وتثبيت منظومات الفساد والاستبداد ، وإذكاء الصراعات البينية بين الدويلات التي تم الاعتراف بها ودعمها ، وتحويلها الى دول شرعية شكلا ، وتطويقها بالاعتراف الدولي وقطع الطريق على أي مشروع نهوض وتقدم للأمة .
ولمواجهة كل ذلك .. لا بد من العمل على انجاز تحالف عريض لكل القوى الوطنية المؤمنة بالتغيير الوطني الديمقراطي السلمي ، وإشراك كافة القوى والفعاليات والنخب السياسية التي تعمل على الانتقال السياسي وتستند الى القواعد الشعبية والاصطفاف الشعبي لمواجهة الاستبداد والفساد والإفساد ، ومواجهة عوامل الخراب والتخريب في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. ومواجهة التدمير في البنى المجتمعية والنسيج الوطني ووقف تداعياتها ، وإعادة التماسك الوطني وتمتين اللحمة الوطنية عبر صياغة عقد اجتماعي يؤسس لمرحلة جديدة ، ويدفع الى إنجاز التغيير الوطني والانتقال السياسي الى دولة وطنية ديمقراطية تداولية ترتكز على وحدة الدولة أرضا وشعبا ، وتؤسس لدولة المواطنة المتساوية ، دولة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية .
————–
عن الفيسبوك

المصدر
موقع الفيسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى