فاروق الفرنسي/ ياسين الحاج صالح
قدم فاروق مردم بك الشاب إلى فرنسا للدراسة في أواسط ستينات القرن الماضي، وظل شاباً بعد ما يقترب من ستة عقود. أنيق الروح، واسع الصداقات عبر الثقافات وعبر الأجيال. يعمل كثيراً، ويجيد الحياة. متواضع، عذب المعشر، وحنون بعد ذلك.
ينصب هذا الحوار على فاروق الفرنسي، المثقف والناشر، الذي وفر لقراء الفرنسية إطلالات على الأدب العربي المعاصر، والقديم. وفيه يجود فاروق بالأفكار والنظرات الثاقبة، وبأسلوب رشيق سلس هو علامته الفارقة دوماً. كانت الجمهورية أجرت حواراً مع فاروق في اسطنبول قبل أكثر من ست سنوات، وكان التركيز فيه أكثر على السوري والعربي. وما نأمله هنا هو أن تتكون صورة أكثر اكتمالاً عن واحد من أجملنا عبر هذا الحوار الثاني الذي أجري بين باريس وبرلين.
اشتركت مع إلياس صنبر في تأليف كتاب بعنوان: أن تكون عربياً. وأنت تعيش في فرنسا منذ خمسة وخمسين عاماً، أي أنك فرنسي كذلك، واشتركت مع صنبر وإدوي بلينل بتأليف كتاب عنوانه: فرنسانا. ماذا يعني أن تكون فرنسياً؟ لا بد من توتر بين العربي والفرنسي فيك، فكيف عشت هذا التوتر، وكيف كانت حلولك له؟
نعم، لا بدّ من توتّر ما، قد يفتر أو يشتدّ بحسب ظروف المُهاجر أو المنفيّ الذي طالت إقامته في بلادٍ ليست بلاده. عانيت من توتّرٍ يُشبهه منذ الصغر، في أثناء دراستي بين عامي 1954 و1961 في مدرسة البعثة العلمانيّة الفرنسيّة في دمشق، «اللاييك»، حين كانت فرنسا تستقطب مشاعر السوريّين المُعادية للغرب بسبب الذكريات المُرّة التي خلّفها الانتداب وسياستها الاستعماريّة في المغرب العربي والعدوان الثلاثي على مصر. ما أنقذني منه، وأنا آنذاك في ذروة حماستي الوطنيّة القوميّة مثل كثيرين من أبناء جيلي، هو ما سمعته من بعض أساتذتي، ثمّ قرأته، عن مُعارضة قطّاع واسع من الفرنسيّين لهذه السياسة، فاستقرّت في ذهني فكرةٌ بسيطةٌ، ومُريحة، هي أنّ لفرنسا وجهين مُتلازمين، لكلٍّ منهما ملامح فاقعة: الأول استعماريّ عُنصريٌّ قبيح، ومن حقّي أن أكرهه، والثاني ديموقراطيّ ثوريّ يستحقّ الحبّ والاحترام.
عندما قصدت فرنسا طالباً، في أواخر 1965، بُعيد تخرّجي من كلّيّة الحقوق في دمشق، كنت أنوي العودة إلى دمشق بعد أن أتمّ دراستي، ولم يكنْ يخطر ببالي قطّ أنّ الأوضاع العامّة في سورية ستضطرّني إلى أن أُمضي بقيّة عمري في فرنسا. كنت، ولم أزل، مُتشبّثاً بهويّتي السوريّة، مُعتزّاً بثقافتي العربيّة، مُغرماً حتّى الهوس باللغة العربيّة وآدابها. ولكنّي كنت أيضاً أجيد اللغة الفرنسيّة كلاماً وقراءة وكتابة، وأعرف الكثير عن فرنسا، عن تاريخها وجُغرافيّتها وآدابها وفنونها وصحافتها ومعاركها السياسيّة والثقافيّة، ولذلك لم أشعر منذ وصولي إليها بأنّي غريبٌ في بلادٍ غريبة. لم تكن بلادي ولكنّها كانت بلاداً أليفة، وتعاملت مع الفرنسيّين وفقاً لفكرتي القديمة، والمُريحة، عنها وعنهم.
حدثان تاريخيّان ثبّتاني في علاقتي الخاصّة، المُتشابكة، بسوريّة والعالم العربيّ وفرنسا، هما هزيمتنا في حُزيران 1967 وانتفاضة الطلّاب والعُمّال في أيّار 1968. جعلني الأوّل أنفر أكثر من أيّ وقت مضى من الناصريّة والبعث -وكنت أكرههما أصلاً وفصلاً منذ سنين، وهذا بعد أن كنت في صباي الأوّل من عشّاق عبد الناصر- وأنخرط في العمل الإعلاميّ الفلسطيني، في إطار خليّة فتحاويّة، ثمّ طوال سبعةٍ وعشرين عاماً مُديراً لمجلّة الدراسات الفلسطينيّة (الفرنسيّة اللغة). ودفعني الثاني إلى التعاطف مع أحد التيّارات اليساريّة الفرنسيّة -الماويّة الفوضويّة في وقتٍ معاً!- وإلى المُشاركة في نشاطاتها. وفي غضون ذلك، صدر قرارٌ من الأجهزة الأمنيّة في سورية بحرماني من جواز السفر ومُلاحقتي، عقاباً لئيماً على بيانٍ وقّعته مع بعض الأصدقاء يُندّد بدخول الجيش السوري إلى لبنان في حزيران 1976، فلم أعد أستطيع العودة إلى سورية، وتعمّقت في السنوات الرهيبة اللاحقة صلتي بالمُعارضة الوطنيّة الديموقراطيّة، صديقاً للحزب الشيوعي (المكتب السياسي). وبطبيعة الحال، لم يعد بإمكاني أيضاً مغادرة فرنسا إلى أيّ مكانٍ آخر إلى أن حصلت على الجنسيّة الفرنسيّة في 1982.
لا أعتقد أنّي تغيّرت في شيء منذ أن أصبحت مواطناً فرنسيّاً. أتاحت لي جنسيّتي الجديدة أن أُسافر حيثما شئت، باستثناء سورية، وسهّلت مُعاملاتي الإداريّة، ولكنّي كنت قبل أن أحصل عليها، وبقيت بعدها، بموازاة مسؤوليّاتي في مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، أعمل في مؤسّساتٍ ثقافيّةٍ فرنسيّة تُعنى بالثقافة العربيّة، من مكتبة معهد اللغات والحضارات الشرقيّة إلى معهد العالم العربيّ إلى دار سندباد للنشر، أي أنّ المهن التي مارستها، على الأقلّ كما كنت أُمارسها، كانت تقتضي منّي أن أعبر الحدود بين الثقافتين، ذهاباً وإياباً، لا أن أتسمّر في إحداها. هذا ما يُفسّر مُساهمتي في الكتابين اللذين ذكرتهما: أن تكون عربيّاً وفرنسانا. كان الأوّل، في جوهره، نقداً للعقيدة القوميّة العربيّة، في تجاهلها الحقائق التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، ودفاعاً عن العروبة باعتبارها مُكوّناً أساسيّاً من مُكوّنات هُويّتنا، نحن العرب، أفراداً ومُجتمعات. وكان الثاني، من خلال تجربة كتّابه الثلاثة، ردّا على مقولة «الهويّة القوميّة الفرنسيّة» في أيّام ساركوزي، وقُوامها التبشير بضرورة انصهار جميع المُواطنين الفرنسيّين في بوتقةٍ ثقافيّة واحدة.
قد تجد في كلٌّ من هذين الكتابين، بين السطور، وقبلهما في مسالك من باريس إلى القدس الذي انهمكت مع سمير قصير في تأليفه ثلاث سنين طوال، مُحاولةً استباقيّة لا واعية للإجابة عن سؤالك. كان كتاب «المسالك»، الذي صدر في 1992-1993 في جُزئين وفي أكثر من ثمانمائة صفحة، نوعاً من «تصفية حساب» مع فرنسا، كتبه عربيّان، لبناني وسوري، ولم يكتباه إلّا لأنّهما فرنسيّان أيضاً.
لذلك كلّه لا تؤرّقني هويّتي المُركّبة ولا أنفي أيّاً من مُكوّناتها. إلّا أنّي أستهجن أن يُقال أنّ السبب الوحيد لالتزامي بالقضيّة السوريّة هو أنّي سوريّ، أو أنّ عروبتي فحسب هي التي حملتني منذ سنين طويلة، وتحملني، على الدفاع عن قضيّة الشعب الفلسطيني، أو أنّهما دفعاني وحدهما إلى انتقاد سياسات الحكومات الفرنسيّة المُتعاقبة. دعني أدّعي أنّ لمواقفي هذه صلةً وثيقةً أيضاً بإيماني ببعض القيم الكونيّة وبانحيازي القديم الذي لم يتبدّل إلى اليسار -اليسار الذي لا يعني في نظري إلّا نصرة المظلومين والمنبوذين حيثما كانوا، واقتران الحرّيّة بالمُساواة.
جئت إلى فرنسا حين كانت الماركسيّة مهيمنة في أوساط الشبيبة الجامعيّة، وكان سارتر نجم الفكر، وبرزت بعد قليل أسماء فوكو ودريدا ودولوز وبورديو وأمثالهم. اليوم يبدو المشهد الفكري قاحلاً في فرنسا. هل توافق؟ وكيف تشرح ذلك؟
كانت فرنسا في الستّينات مُدهشةً حقّاً في حيويّتها الثقافيّة وتعدّد مذاهبها الفكريّة. سأُضيف على الأقلّ إلى الأسماء التي ذكرتها كلود ليفي ستروس وجاك لاكان وفرنان بروديل ورولان بارت ولويس ألتوسير. لم يكن أحد من هؤلاء كلّهم ماركسيّاً، باستثناء ألتوسير، ولا الغالبيّة الغالبة من كبار أساتذة العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، وبقي مُفكّرٌ ليبيراليّ كبير مُناهض للشيوعيّة، هو ريمون آرون، في صدارة المشهد الثقافيّ. إلّا أنّ الحزب الشيوعي كان آنذاك واسع الشعبيّة ويضمّ شخصيّاتٍ ثقافيّة بارزة، وكانت الماركسيّة في نظر العديد من المُثقّفين غير الشيوعيّين «الأفق الذي لا يُمكن تجاوزه في عصرنا»، كما كتب سارتر في بداية العشريّة الستّينيّة. وفي هذا السياق نمت أو نشأت حركاتٌ يساريّة جديدة مُنافسة للحزب الشيوعي، وناضل في صفوفها عشرات الألوف من الطلبة والعُمّال، ونُشرت أو أُعيد نشر مؤّلفات الماركسيّين المُغيّبين مثل روزا لوكسمبورغ وغرامشي وتروتسكي وبوخارين ولوكاتش وبانيكوك، وضجّت الشوارع وامتلأت الجدران خلال انتفاضة أيّار 1968 بشعاراتٍ شيوعيّة… هذا ما أوحى أحياناً بهيمنة الماركسيّة في الستّينات، على الرغم من غيابها في أعمال أغلب المُفكّرين الكبار المذكورين.
لم تنضب في العقود التالية قريحة الفرنسيّين الفكريّة، وظهر في أثنائها، على سبيل المثال، أهمّ أو بعض أهمّ ما أنتجه فوكو قبل وفاته (1984)، ومثله دولوز (1995) وبورديو (2002) ودريدا(2004). وتحفل المكتبة الفرنسيّة حتّى الآن، في مُختلف حقول المعرفة، بأعمال التابعين – وتابعي التابعين بإحسان! – ممّن لا يقلّ إنتاجهم جودة وجدّةً عن سواه في أيّ بلدٍ من البلدان. ما تغيّر في اعتقادي منذ مُنتصف السبعينات هو هيمنة التسويق (الماركتنغ) الفكريّ على الفكر، كما أشار دولوز في 1977 في معرض تنديده بظاهرة «الفلاسفة الجُدد» من طراز برنار هنري ليفي، ذوي «المفاهيم الضخمة كالأضراس النخرة». أصبح هؤلاء بغتةً قادة الرأي العامّ، وحجّتهم «الفلسفيّة» الوحيدة أنّهم خُدعوا في شبابهم بمن سبقهم من المُفكّرين وانّهم لن يُخدعوا بعده. احتلّوا الدوريّات والإذاعات والتلفزيونات، وحذا حذوهم في التشبيح الإعلاميّ قطيعٌ من الكتّاب الذين امتهنوا الصحافة الثقافيّة وجعلوا من مفهومهم الفضفاض للشموليّة ذريعةً للانتقاص من أيّ فلسفة نقديّة، وليس من الماركسيّة فحسب، وللتغنّي بفضائل الاستعمار والتأسّي على ثقل أعباء «الرجل الأبيض»… وطُمست أو هُمّشت مؤلّفاتٌ رصينة في الفلسفة والتاريخ وسائر العلوم الاجتماعيّة.
ما يحجب أيضاً هذه المؤلّفات عن الأنظار هو أسطورة «النظريّة الفرنسيّة» (فرينش ثيوري) ومكانتها في الجامعات الأميركيّة والسجالات التي أثارتها. أقول إنّها أسطورة لأنّ جمع فوكو ودولوز ودريدا ولاكان وليوتار وغيرهم في مدرسةٍ واحدة لا أساس له من الصحّة، فلكلٍّ منهم مفاهيم فلسفيّة مُتميّزة، ولكلٍّ مقصدٌ خاصٌّ به، ثمّ إنّ مواقفهم في القضايا العامّة مُتباينة. ما يجمع بينهم فقط هو أنّهم جميعاً بعيدون كلّ البعد عن الممارسة الأنكلوسكسونيّة «العقلانيّة» للفلسفة، منفتحون على إشكاليّات العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة وعلى مُختلف الأنواع الأدبيّة والفنيّة، مُقتنعون باشتباك الفلسفة بالأسئلة المطروحة في الفضاء العامّ. حين جُعل منهم مدرسة فلسفيّة قائمة بذاتها لم يعد من سؤالٍ إلّا عن مصيرها، وهل انقرضت، وهل انقسمت على نفسها، وإذا لم تنقرضْ فمن هم اليوم أتباعها. يبدو لي، أوّلاً، بعد التشديد على خصوصيّة كلّ منهم، أنّ الزمان قلّما يجود في مرحلةٍ منه لا تتجاوز أربعين سنة بأمثالهم من الفلاسفة المُتعاصرين، وثانياً أنّنا في زمنٍ يستحيل فيه حضور الفلسفة في الفضاء العامّ كما حصل في أيّامهم، على الرغم ممّا يُقال عن الفرنسيّين من أنّهم أكثر من غيرهم اهتماماً بالفلسفة بسبب تدريسها إلزاميّاً في المدرسة الثانويّة. الحضور الطاغي في عصرنا، والسطوة والقول الفصل، للمُثقّفين الإعلاميّين، السعداء بتفاهتهم.
أنت على حقّ إذاً في قولك إنّ المشهد الفكريّ يبدو قاحلاً، هذا إذا اقتصرنا على ما نشهده على سطحه وعلى ما يُروّج له في مُناخٍ إيديولوجي مسموم لا يُشرّف فرنسا بل يُثير الغثيان أو السخرية.
على شاشة حاسوبك صورة لماركس بألوان كثيرة. ما معنى أن تكون ماركسياً اليوم؟ قيل مراراً أن ماركس قد مات، فهل تراه بعث حياً من جديد؟
أُحبّ صورة ماركس هذه بألوانها المُرقّطة «الكيتش»، لأنّها تُزيل عنه هالة القداسة، ولأنّها تُعلن لمن يراها أنّ ماركسيّة ماركس ليست عقيدةً شاملة مُكتملةً مُغلقةً. ثمّة سلسلة في دار نشرٍ فرنسيّة صغيرة، عنوانها «ألف ماركسيّة»، أستعيره للإجابة عن سؤالك: ما معنى أن تكون ماركسيّاً في أيّامنا؟ ربّما كان الجواب الذي تتوافق عليه هذه الماركسيّات الألف هو أنّ ماركس لم يزل المُفكّر الوحيد الذي لا غنى عنه. أعني أنّك قد لا تُوافقه في قليلٍ أو كثيرٍ ممّا كتبه في الفلسفة أو الاقتصاد أو التاريخ، وأنّك لا تستهين أبداً بإنجازات مُفكّرين عظام قبله وبعده، ومنهم من يختلفون معه في كلّ شيء، في إشكاليّاتهم ومفاهيمهم ومناهجهم، ولكنّك لا تستطيع، ما دامت الرأسماليّة، وما دام الصراع الطبقيّ بأشكاله القديمة والمًستجدّة، إلّا أن ترجع إليه للتفكير معه أو بمُحاذاته، أو حتّى ضدّه. أتذكّر في هذا الصدد هزء دريدا في مقدّمة كتابه شبح ماركس من القائلين بأنّ ماركس قد مات، وأتذكّر أيضاً تصريح جيل دولوز: «أعتقد أنّي وفليكس غواتاري (شريكه في بعض مؤلّفاته، وهما نيتشويّان قُحّان) ما زلنا ماركسيّين، وذلك بمعنى أنّنا نرفض أيّ فلسفةٍ سياسيّة لا تنطلق من تحليل الرأسماليّة وتطوّراتها».
لم يكفّ ماركس طوال أربعين سنة، منذ مقالاته الأولى في 1843 حتّى وفاته في 1883، عن السعي إلى فكّ رموز «هيروغليفيّة الحداثة» الرأسماليّة، مُنتقلاً من نظريّة الاغتراب عن الذات إلى دراسة الاقتصاد السياسيّ الكلاسيكي دراسةً مُعمّقةً إلى نقده جملةً وتفصيلاً. نراه في مُراسلاته الغزيرة -التي تكاد تكون مُدوّنته اليوميّة – منشغلاً على الدوام بهمّه النظريّ، أي تفسير العالم كما هو، وبهمّه السياسيّ، أي تغيير العالم، حريصاً على توضيح مفاهيمه ومراجعتها إذا تثبّت من قصورها، وعلى ذكر ما ينبغي له أن يتعلّمه لفهم ما أشكل عليه أو لاستكمال نظريّته الاقتصاديّة بحيث تشمل، مثلاً، ما استنتجه من آخر أزمةٍ صناعيّة في بريطانيا أو خصائص التطوّر الرأسمالي في الولايات المُتّحدة أو طبيعة الملكيّة العقاريّة في روسيا. سوّد ماركس آلاف الصفحات، على دفعات مُتتالية، قبل أن يصوغ مخطوطته النهائية للمُجلّد الأوّل من كتاب رأس المال وأن ينشرها في 1867، مُضيفاً في كلٍّ دفعةٍ مفاهيم جديدة أو مُتخلّياً عن مفاهيم سابقة، وهذا ما جعله يُعدّل مراراً مخطّط بحثه. ومن المعروف أنّه لم يكن راضياً عن بعض تفاصيل الكتاب كما نُشر فأعاد النظر فيه قبل ترجمته إلى الفرنسيّة، ثمّ قبل صدور الطبعة الألمانيّة الثانية، وكان ينوي قٌبيل وفاته صياغته بكامله من جديد. ومن المعروف أيضاً أن الموت لم يُمهله فبقيت مخطوطات المُجلّدين الثاني والثالث على حالها واضطرّ رفيقه انجلز لإعدادهما للنشر بحسب اجتهاده. لم يدّعِ الرجل أنّه ختم العلم، ولم يوصد الباب خلفه إلى أبد الآبدين…
معنى أن تكون ماركسيّا اليوم هو أن تُشارك ماركس طموحه إلى التحرّر من علاقات الإنتاج الرأسماليّة التي حلّل بدقّة شبكتها الأخطبوطيّة كما كانت في عصره وكما توقّع عولمتها. هو أن تنهج منهجه وأن ترفده بما استجدّته العلوم الاجتماعيّة المُعاصرة والنضالات النسويّة والبيئيّة. وهو أن تتحرّر من الماركسيّة المُقولبة في بضع مقولات مُبسّطة تُنسب إلى ماركس – ولا شكّ في أنّه مسؤولٌ عنها في بعض ما كتبه-، ولكنّه دحضها مراراً بنفسه خلال مسيرته الفكريّة والسياسيّة. أوّلها الحتميّة التاريخيّة وتصوّر التاريخ على أنّه حركةٌ أُفقيّة متواصلة إلى الأمام حتّى نهايته السعيدة. على العكس من ذلك، ومن مقولتي العلاقة الميكانيكيّة بين القوى المُنتجة وعلاقات الإنتاج وبين البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة، لم يُنظّر ماركس للحتميّ بل للممكن، للتطوّر غير المُتكافئ بين الأصعدة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، لتداخل أكثر من زمنٍ واحد في الزمن الحاضر، ولعلّه في ثلاثيّته المشهورة (صراع الطبقات في فرنسا، 18 برومير لويس بونابرت، الحرب الأهليّة في فرنسا) أوّل من سرد حقبةً تاريخيّة حاسمة على هذه الأسس، مُبيّناً أهميّة التناقضات الاجتماعيّة كافّةً والخيارات الفرديّة والأحداث الطارئة في حسمها. «التاريخ لا يصنع شيئاً»، لا يستبطن ولا يستهدف، والبشر هم الذين يصنعون تاريخهم في ظروفٍ لم يختاروها… ولم تكن في «خاطر» التاريخ!
لم يمت ماركس ولكنه غاب عن الأعين منذ أن استفحلت أزمة الأنظمة الاستبداديّة التي انتحلت اسمه إلى أن ذكّرت به أزمات الرأسماليّة الماليّة فظهر من جديد على أغلفة المجلّات تحت عناوين طنّانة من نوع «عاد ماركس!» واحتُفي بعودته ولكنْ باعتباره مُفكّراً أكاديميّاً يستحقّ التبجيل ولا علاقة له من قريبٍ أو بعيد بماركس المُناضل الشيوعي، وأحد مؤسّسي الأمميّة الأولى. وأمّا في بلادنا فما زلنا مُبتلين بشراذم من الماركسيّين الببغائيّين، ويُجاريهم في السماجة الماركسيّون السابقون، التوّابون الأوّابون، الذين يستغيثون في كلّ حين من شبح ماركس، وكأنّه يُطاردهم بسوطٍ من لهب!
سمعت منك أن الحال لم تكن خلال أكثر من نصف قرن عشتها في فرنسا أسوأ مما هي اليوم فيما يخصّ صورة المسلمين وتمثيلهم. لماذا؟ ما الذي جرى؟ وبأي شيء تختلف فرنسا في هذا الشأن عن ألمانيا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة؟ وهل يتعلق الأمر بـ «انفصالية إسلامية» أم ببنية فرنسية «فاصلة»، وكيف ترى صور التفاعل بين الاثنين؟
في فرنسا، كما في غيرها من الدول الأوروبيّة، تراثٌ قديمٌ جدّاً من العداء للدين الإسلامي، أحيته الحروب الاستعماريّة في القرن التاسع عشر وبقي كامناً في النفوس. إلّا أنّ الجهر به منذ الحرب العالميّة الثانية، بصورةٍ عُدوانيّة وعلى نطاقٍ شعبيّ واسع، حديث العهد نسبيّاً، ونكاد لا نجد له أثراً في الحملات الصحفيّة العنصريّة ضدّ العرب في غضون انهيار الامبراطوريّة الفرنسيّة في المغرب العربي، ثمّ في حملة أيّار وحُزيران 1967 التي رافقت الحرب العربيّة الإسرائيليّة الثالثة. لم يكنْ يُطعن بالعرب في هذه الحملات لأنّهم مُسلمون، ولا بالمسلمين لأنّهم يدينون بدين الإسلام، بل يوصفون بأنّهم «ورثة هتلر»، «عُملاء موسكو»، «عبيد البكباشي عبد الناصر»، مع ما يستدعيه ذلك من قبائح. ولم يكنْ من عادات أعتى السياسيّين والإعلاميّين العنصريّين، على حدّ علمي، أن يتندّروا علناً بالمُقدّسات الإسلاميّة.
كان اليمين المُتطرّف المُنظّم هزيلاً جدّاً في الستّينات والسبعينات إذا ما استندنا إلى نتائج الانتخابات الرئاسيّة والنيابيّة، على الرغم من أنّ دعايته كانت تنجح أحياناً في استنفار الأحقاد التي خلّفتها هزيمة فرنسا في الجزائر. نال جان ماري لوبن، مُرشّحه لرئاسة الجُمهورية في 1974، أقلّ من 1% من أصوات الناخبين، وأُحيطت «الجبهة القوميّة» التي أسّسها بحزامٍ عازل من قبل اليسار واليمين الليبيرالي على السواء فحُرمت طويلاً من التمثيل في البرلمان. إلّا أنّ المُرشّح نفسه حصل على ما يقرب من 15% في انتخابات 1988. ولذا فالسؤال الأوّل الذي ينبغي طرحه هو: ماذا جرى خلال هذه السنوات الأربعة عشرة؟ ما جرى، بالإضافة إلى تفاقم الأزمات السياسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في الثمانينات، هو تحوّل الهجرة العُمّاليّة المؤقّتة، المغاربيّة أساساً، إلى هجرةٍ دائمة، واضطرار الدولة كما تقتضي أعرافها إلى السماح رسميّاً بلمّ الشمل العائلي أو التغاضي عنه، وازدياد عدد المُسلمين بطبيعة الحال، والعجز عن إيجاد حلول سريعةٍ وناجعة للمشاكل المترتّبة على هذه الطفرة الديموغرافيّة، سكنيّاً وتعليميّاً ودينيّاً. شُغلت الأوساط السياسيّة بمسألة الهجرة منذ أواخر هذه السنوات، ومعها مسألة اندماج المُسلمين في النسيج الاجتماعي الفرنسي، وكثرت السجالات والمُزايدات حولهما، هذا في الوقت الذي كان فيه عدد المُهاجرين الشرعيّين وغير الشرعيّين يتنامى سنةً بعد سنة (ويسعد بهم أرباب العمل الباحثون عن عمالة رخيصة)، وكانت أوضاع الضواحي حيث يعيش أغلبهم تتردّى على جميع الأصعدة ويختلّ فيها الأمن، والدعاة الأفّاكون يبثّون فيها سمومهم، والحكومات المُتعاقبة مُستمرّةٌ في عجزها عن ابتداع حلولٍ لمشاكلها المُتراكمة، بما فيها آثار «الصحوة الإسلاميّة» التي زادتها تعقيداً.
متى حلّت الإسلاموفوبيا بالمعنى الدقيق للكلمة، أي العنصريّة ضدّ جُمهور المسلمين لأنّهم مُسلمون، محلّ العُنصريّة القديمة المُعادية للعرب؟ من المهمّ هنا، للردّ على الذين يُسفّهون هذا المُصطلح، الإلحاح على أنّ التنديد بجميع الذين يختلقون الأعذار للإرهابيّين الإسلاميّين أو للعدوان من قبل مُسلمين على الأشخاص وممتلكاتهم وعلى المرافق العامّة والرموز الوطنيّة ليس من الإسلاموفوبيا، ولا اعتبار الإسلام السياسي مُنافياً بطبيعته للقيم الجُمهوريّة الفرنسيّة، ولا حتّى كراهية الدين الإسلاميّ ما لم تُؤدِ إلى التمييز السلبيّ في مُعاملة المًسلمين «العاديّين» وإهانتهم وإذلالهم. ومن البديهيّ أيضاً أنّها لا تعني بأيّ حال دراسة الإسلام دراسةَ نقديّة مهما اختلفت في مناهجها ونتائجها عمّا يؤمن به المُسلمون. أعتقد بالمُقابل أنّها تنطبق على الهستيريا السياسيّة التي شهدناها قي تشرين الأوّل (أكتوبر) 1989 وبعده في صدد الحجاب، والتي لم تنتهِ حتّى بعد أن سُنّ في 2004 قانونٌ تمييزيٌّ خاصٌّ بالمسلمين – وإنْ لُفّق له، تفادياً للفضيحة الدستوريّة، عنوانٌ يُعمّم منع العلامات الدالّة على مُعتقدات التلاميذ الدينيّة. وسمت الإسلاموفوبيا فعلاً مُمارسات عهد ساركوزي (2002-2007) حين أصبح القذف في حقّ المسلمين رياضةً وطنية، يُتهمون في وسائل الإعلام، كما لو كانوا جماعةً طائفيّة مُتجانسة، بالتسبّب في انهيار سلطة الدولة في الضواحي وانتشار البطالة وتدهور التعليم واستفحال العنف وتصاعد العداء لليهود وانتهاك حرمة المقابر…وحتّى المُشاجرات بين السكارى في المقاهي! وتتويجاً لكلّ هذا الهراء، صار صُنّاع الرأي العام يفتعلون قضايا قوميّة من أمورٍ تافهة، مثل اللحم الحلال في مطاعم المدارس الحكوميّة.
لا أنفي أنّ في فرنسا مسألةً إسلاميّة شائكة، ولا آخذ على ماكرون قوله إنّ الإسلام في أزمة، فهو في أزمة، وأيّ أزمة، ولكنْي آخذ عليه التشدّق في موضوعٍ ليس من صلاحيّات رئيس الجُمهوريّة الفرنسيّة. وأنا واعٍ تمام الوعي بما سبّبته «الصحوة الإسلاميّة» في العالم أجمع من ضررٍ سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ وأخلاقيّ وجماليّ. إلّا أنّ مُشكلتنا في فرنسا لا تنحصر في رفض الاندماج في المُجتمع الفرنسي من قبل ربع أو ثلث أبناء الجيلين الثاني والثالث من أبناء المُهاجرين بسبب صحوتهم الإسلاميّة (هذا بحسب استطلاعات الرأي العام) ولكنّها أيضاً في كونهم لا يُعاملون مُعاملة المواطن بحقوقه كاملةً وواجباته، ولذا ينزعون إلى التقوقع في فضاءٍ خاصٍّ بهم، له دهاليزه وتقاليده ولغته، وهذا بعد أن حُشر أجدادهم وآباؤهم في أحياء تُشبه الغيتويات أحياناً، أُضحت تُسمّى للتهييج على المُسلمين «الأراضي التي فقدتها الجُمهوريّة». نعم، تختلف العلمانيّة الفرنسيّة عن سواها منذ تقنينها في 1905 في أنّها تقتضي فصل الدين عن الدولة فصلاً صارماً – وإن كانت لا تتقيّد به تماماً في كلّ الأمور، مثلاً في الأعياد الدينيّة المسيحيّة – ولكنّها لا تفصل المُتديّنين عن المواطنين الآخرين، ولا تمنعهم من ممارسة طقوس دياناتهم، ولا تتدخّل في ملبسهم ومأكلهم، ولا تفرض عليهم إلّا الامتناع عن التبشير السياسي في أماكن العبادة. ليس العيب في تطبيق مبادئها وإنّما في خرقها من قبل الذين يدّعون التمسّك بها، وفي ابتداع مشاكل وهميّة وسنّ قوانين لحلّها وكأنّ المشاكل الحقيقيّة، المُستعصية، لا تكفينا.
علينا الآن، في أواخر 2021، مُضافاً إلى كلّ ما ذكرت، أن نتحمّل سماع المُزايدات في شأن الدين الإسلاميّ نفسه، وكيف لا يُمكن التعايش معه في جُمهوريّتنا الديمقراطيّة العلمانيّة الاجتماعيّة. لم يبقَ إلّا أن يُفرض على المسلمين المؤمنين الإلحاد أو التنصّر أو التهوّد، وأن يُهجّر من لا يرتدّ عن دينه.
حين تفكر كفرنسي أو تتماهى بفرنسي من الطبقة الوسطى، ماذا ترى من مآخذ عادلة على المسلمين في فرنسا وأوروبا؟ أو ما هو العادل وما هو غير العادل في تعامل المؤسسات الفرنسية مع الأقليّة المسلمة؟ وكيف ترى أن يجري نقد سياسات فرنسية حيال المسلمين دون تغذية «الانفصاليّة الإسلاميّة»، ونقد الإسلاموفوبيا دون الوقوع في الإسلاموفيليا؟
لنتّفق أوّلاً على من هم المسلمون المعنيّون. ليس في فرنسا إحصائيّات دينيّة للسكّان، وتتضارب الأرقام المُتداولة في تقدير عدد المسلمين، بحسب المعايير المُعتمدة، بين أربعة ملايين وستّة، أي بين ستة إلى تسعة بالمئة من السكّان. ويُقدّر عدد المُتديّنين بمليوني نسمة، تُظهر الاستطلاعات أنّ 30 بالمئة منهم مُتشدّدون في إسلامهم، ويتوزّع الآخرون بين من يُنسبون إلى الإسلام أو يُعلنون انتسابهم إليه بسبب أًصولهم أو ثقافتهم أو تقاليدهم الاجتماعيّة. تُهمل هذه الفروق عند الكلام عن «الانفصاليّة الإسلاميّة»، كما يُهمل اندماج أعدادٍ غفيرة من المُسلمين في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وإلى حدٍّ ما في الحياة السياسيّة، مع العلم بأنّ الناخبين المُسلمين الذين أدلوا بأصواتهم في انتخابات 2017 الرئاسيّة وزّعوها بين مُرشّحي الأحزاب اليساريّة (56 بالمئة) وماكرون (24 بالمئة) ومُرشّح الحزب اليمينيّ (15 بالمئة) والمُرشّحة اليمينيّة المُتطرّفة (5 بالمئة) – وليس في خياراتهم هذه ما يُشير إلى رغبتهم في الانفصال!
ما هي الآن مآخذ الفرنسيّين، العادلة والظالمة، على المُسلمين؟ هم عادلون عندما يقولون إنّ أغلب الجرائم «العاديّة» في فرنسا (وبنسبةٍ عالية) يرتكبها شبّانٌ من أُصول إسلاميّة، وظالمون عندما يربطون بين الجريمة والهجرة والإسلام، وكأنّ هؤلاء الشبّان يقتلون ويسرقون ويحترفون تهريب المُخدّرات لأنّهم يعتنقون الدين الإسلامي. وهم عادلون في تنديدهم بالمُسلمين المُتشدّدين الذين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلاميّة، أو يُروّجون للنقاب وتعدّد الزوجات وختان الإناث، أو يستسهلون إيذاء الآخرين لأنّ الآخرين في نظرهم «كُفّار»، إلّا أنّهم ظالمون عندما يتعمّدون الخلط بينهم وبين سائر المُسلمين المُتديّنين. وهم عادلون عندما يأخذون على هؤلاء تقصيرهم في إصلاح أحوالهم بقدر مُستطاعهم وهزال المُؤسّسات التي تزعم أنّها تُمثّلهم واستهتار كثيرٍ منهم في سلوكهم اليوميّ بالنظام العام والأعراف المُتأصّلة في البلاد، ولكنْ ليس من العدل في شيء أن يُتّهموا بالتعصّب لتفضيلهم اللحم الحلال لأبنائهم في المطاعم المدرسيّة أو إذا استاؤوا من تدنيس مُقدّساتهم. ولا بدّ، في معرض الكلام عن المآخذ، من كلمةٍ تخصّ أنصار التعدّديّة الثقافيّة من المُسلمين غير المُتديّنين، فالتعدّدية التي يُنادون بها حمّالة أوجه، إذ أنّها تضمن في أحد معانيها الحقّ المشروع في الاختلاف ولكنّها تفقد كلّ معنىً ايجابيّ عندما تُحمّل كلّ جماعةٍ دينيّةٍ وكلّ فردٍ من أفرادها ثقافةً أبديّةً منغلقةً على نفسها. والحقّ في الاختلاف لا يكتمل إلّا بالحقّ في الشَبَه، وينقلب وبالاً على الذين يُطالبون به عندما يدفعهم إلى رفض بعض القيم الكونيّة أو تفسيرها على هواهم أو إلى الإصرار على التميّز عن الآخرين بمظاهر لا جدال في مشروعيّتها، ولكنّها تُفضي حتماً إلى سجن النفس في معزلٍ طائفيّ.
لقد بيّنت بوضوح فيما سبق موقفي من الهياج الفرنسيّ الجنونيّ من حجاب النساء المُسلمات، فمن حقّهنّ أن يعتبرنه من فرائض دينهنّ أو من تقاليدهن الاجتماعيّة وليس من حقّ أحد أن يقسرهنّ على السفور. إلّا أنّ الدفاع عنهنّ، وهنّ بحسب جميع الاستطلاعات أكثر الناس في فرنسا تعرّضاً للتمييز العنصريّ، لا يستلزم منّي استحسان الحجاب وامتداحه ونسيان النساء اللواتي ناضلن عشرات السنين للتحرّر منه. وحين استفظعتُ قتل المُدرّس الفرنسيّ في العام الماضي، وقبله مذبحة شارلي إيبدو في 2015، لم يمنعني التعاطف مع الضحايا من استهجان الرسوم الكاريكاتوريّة التي تُحقّر النبيّ والدعوة شبه الرسميّة إلى اعتبارها الأُنموذج الأسمى لحرّيّة الضمير والتعبير. أصبحنا في عصرنا السعيد بحاجةٍ إلى التذكير ببديهيّاتٍ كهذه وتبريرها لمُجابهة التطرّف العلمانيّ «الفاصل»، الذي جعل من الإسلاموفوبيا إحدى القيم الجُمهوريّة، والإسلام «الانفصالي» الذي يعزل المُسلمين في هُويّة طائفيّة خانقة.
أنت مثقّف وناشر معروف في فرنسا، لك نفوذ وسلطة قرار في مجالك. كيف تتعامل مع ما يتّصل بذلك من امتيازات وضغوط؟
لا أُنكر أنّ لي بعض النفوذ منذ أن تولّيت مسؤوليّة دار سندباد للنشر، ولا أنّ هذا النفوذ يُعرّضني لأنواعٍ مُنوّعةٍ من الضغوط، وأفترض أنّ حال كلّ الناشرين، كباراً وصغاراً، مثل حالي. مجالي الأساسيّ، كما تعلم، هو نشر ترجماتٍ للأعمال الأدبيّة العربيّة الكلاسيكيّة والمُعاصرة. ليتني اكتفيت بالقديم، فحتّى الآن لم يعتب عليّ أبو تمّام لأنّي نشرت شعر المتنبّي والمعرّي قبل شعره! مُشكلتي مع الإنتاج الجديد أنّه غزيرٌ جدّاً، وأنّي لا أستطيع، بحسب اتّفاقي مع أصحاب الدار، أن أنشر أكثر من تسع روايات في كلّ سنة، ومعها مجموعة شعريّة واحدة، وأنّ جُغرافيا الأدب العربيّ واسعة جدّاً تمتدّ من المُحيط إلى الخليج، وأنّ دور النشر الأُخرى لا تهتمّ إلّا نادراً بالأدب العربيّ، وأنّ كثيراً من الكتّاب العرب يعتقدون أنّ نشر ترجمة كتبهم بلغةٍ أجنبيّة، خصوصاً أوروبيّة، يضمن لهم الشهرة العالميّة والخلود. مضى عليّ أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً وأنا أسعى إلى حلّ هذه المُشكلة حلّاً مُرضياً، أعني حلّاً يُرضي الكُتّاب ويُرضيني، ولم أجده بعد. والحقيقة أنّي كنت مهموماً بها على الدوام في سنواتي السندباديّة الأُولى، ثمّ «تمسحت»! تعلّمت الصبر والمُسايرة والمماطلة، ولكنّي وفيت دائماً بوعودي، يشهد على ذلك جميع الأدباء الذين تعاملت معهم. أمّا الذين لم أنشر لهم شيئاً، والمُستحقّون منهم يُعدّون بالعشرات، فأرجو منهم أن يغفروا لي تقصيري وآمل صادقاً أن يكونوا أسعد حظّاً مع غيري من الناشرين.
ترى أنه لا ضرورة لأن تترجم إلى العربيّة الأعمال النظريّة والفلسفيّة الأشد تركيباً، وأن تُقرأ بلغاتها. يبدو هذا صادماً للحدس الأوّل للمثقّف الذي يدعو بالأحرى إلى الترجمة والمزيد من الترجمة، وفي كلّ الميادين. لكنّ قراءة بعض الترجمات إلى العربيّة، وهي تجربة يتواتر أن تكون مخيّبة، يدفع إلى موقعٍ قريب ممّا تقول. كيف تُفكر في هذا الأمر اليوم؟ وما هي السياسة الثقافيّة التي يمكن أن تستوعب خياراً كهذا الذي تدعو إليه؟
يُرجع دائماً في بلادنا عند الكلام على مشكلات ترجمة المُصطلحات الفلسفيّة إلى سابقةٍ تاريخيّة مشهورة من العصر العبّاسي، هي ترجمة متّى بن يونس لكتاب أرسطو فنّ الشعر. جمع المسكين في عمله كلّ المساوئ الممُكنة: الركاكة اللغويّة واضطراب المعاني ووساطة النسخة السريانيّة المُخلّة بالنصّ الأصليّ والجهل بالسياق الثقافي الاجتماعي التاريخي الذي تُحيل إليه مُصطلحات أرسطو، فترجم المأساة بالمديح والملهاة بالهجاء والمُحاكاة بالتشبيه، إلخ. لم يفهم أحدٌ في عصر المُترجم شيئاً ممّا قاله أرسطو، هذا إذا لم ينفروا من الكتاب منذ قراءة سطوره الأولى، والأدهى أنّ شُراحه استندوا إلى هذه الترجمة السقيمة، وآخرهم ابن رشد الذي فسّر مصطلحاته بشواهد من الشعر العربي. كان هذا في العصر الوسيط، وقد تكرّر مراراً فيما بعد في ترجماتٍ بين لغاتٍ أُخرى في الشرق والغرب لكلّ منها خصائص يتعسّر «ترحيلها» من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف، ويستحيل أحياناً. وقد أُثيرت على سبيل المثال، في القرن الماضي في فرنسا مشكلة ترجمة المُصطلحات الفلسفيّة الألمانيّة المُركّبة، وانتُقدت نقداً عنيفاً ترجمات أعمال فرويد المُتوفّرة وتبيّن أنّها خانته خياناتٍ لا تُغتفر (وكانت هي المُعتمدة لدى المُحلّلين النفسيّين في ممارستهم مهنتهم، وهي التي ترجمها جورج طرابيشي إلى العربيّة) فتُرجمت كتب فرويد من جديد بعنايةٍ فائقة، ولكنّ النصّ الفرنسيّ بات بعيداً كلّ البعد عن الذائقة اللغويّة الفرنسيّة، عسيراً على الفهم، حتّى على فهم المُختصّين أنفسهم، فاستدعى ذلك ترجماتٍ جديدة…
ليس في العالم العربيّ قاموس للمصطلحات الفلسفيّة مُتّفقٌ عليه. ومن الشائع أن تُستخدم بحسب البلدان وبحسب اجتهاد المُترجمين ألفاظٌ مُختلفة مُقابل مفهومٍ مُعيّن في اللغات الأجنبيّة، أو أن يُستخدم لفظٌ واحد مُقابل مفاهيم مُختلفة، وهذا في ترجمة النصوص الكلاسيكيّة، فكيف في ترجمة الإنتاج الحديث الذي يبتدع مفاهيم جديدة؟ ونقع على ترجماتٍ خائنة تستهتر بالنصّ الأصليّ فتخذف منه وتُضيف إليه للتحايل على صعوبة نقله إلى العربيّة، وعلى ترجماتٍ لا تُفهم، إمّا لأنّ المُترجم لم يفهم النصّ الأصليّ، وإمّا لأنّه حرص على التقيّد به كما تقتضيه الأمانة العلميّة ولكنّه لم يُوفّق لا في اختيار المصطلحات المُلائمة ولا في تضمينها في جُملةٍ عربيّة سليمة. وثمّة إشكالٌ آخر في نقل الأعمال الحديثة، ولعلّه الأهمّ: يُفترض بمن يعكف على ترجمة نصٍّ لدريدا مثلاً أن يكون مُطّلعاً على الأعمال الفلسفيّة التي يُحيل إليها دريدا بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، وهي تشمل تاريخ الفلسفة بأسره، ويُفترض بالقارئ العربيّ الذي تتوجّه إليه الترجمة (لأنّه لا يعرف اللغة المصدر) أن يكون قد قرأ هذه الأعمال باللغة العربيّة، وأكثرها لم يُترجم أو تُرجم ترجمةً سيّئة. هل يستطيع هذا القارئ أن يطّلع فعلاً على فلسفة دريدا من خلال ما تُرجم من كتبهّ؟ ويُطرح السؤال في شأن دولوز ولاكان وبعض مؤلّفات فوكو، لا كلّها، ولا أتحدّث هنا إلّا عن بعض الفرنسيّين الذين ورد ذكرهم من قبل.
لست مُختصّا في هذه الأمور، ولا تسمح لي معارفي الفلسفيّة المُتواضعة جدّاً أن أقترح حلولاً فيما عدا ما يتعلّق بالنواقص التي يعاني منها القارئ غير المُختص ولم تُسدّ حتّى الآن على الرغم من جهودٍ لا تُنكر، جماعيّة وفرديّة، وفي القطّاعين العام والخاصّ. لا ضرورة للإلحاح قبل كلّ شيء على الحاجة إلى معجمٍ فلسفيّ جامع يضبط المفاهيم ضبطاً مُحكماً في أُصولها وفروعها وتحوّلاتها ودلالاتها المُختلفة، ويضع لها ما يُقابلها في اللغة العربيّة ويتوافق عليه العاملون الجدّيّون في حقل الفلسفة. إلّا أنّ هذه المُهمّة تقتضي التزاماً جماعيّاً طويلاً وشاقّاً، ولا يبدو أنّها من شواغل المؤسّسات الثقافيّة الكبرى في أيّامنا. ليس من شواغلها أيضاً استكمال ترجمة المؤلّفات الأساسيّة في تاريخ الفكر أو إعادة ترجمتها بما يجب من دقّةٍ وما يُمكن من سلاسة، على نحو ما برمجته في عام 2000 المُنظّمة العربيّة للترجمة في بيروت وانشغلت عنه فيما بعد ولم تُنجز إلّا القليل ممّا وعدت به. ّهذا هو الشرط الثاني، الضروري وغير الكافي، للشروع في ترجمةٍ للإنتاج المُعاصر صالحةٍ للتداول. والآباء المؤسّسون، مهما يكن الأمر، أحقّ بأن تُترجم أعمالهم من أبنائهم وأحفادهم. لا جدال في أنّ التعريف بهذا الإنتاج مطلوبٌ وضروريّ، ولكنّي أرى أنّ أفضل تعريفٍ به باللغة العربيّة ليس في ترجمة ما يصعب فهمه على غير المُختصّين بالفلسفة حتّى بلغته الأصليّة، ويستعصي باعتراف أصحابه على الترجمة إلى أيّ لغةٍ كانت، ولكنْ في الكتابة عنهم ومحاولة تفسير مقاصدهم ومناهجهم ومُصطلحاتهم. ومن القادر عليها إلّا الذي قرأ أعمالهم بلغتهم ودرسها دراسةً مُعمّقة… وفهمها!
تعيش في بيتٍ من كتب، ألوف الكتب التي تحتلّ كلّ موقع ممكن من البيت. وهناك المزيد في القبو. أنت قارئ للكتب ومؤلّف كتب وناشر كتب. لكنّك كنت ناشطاً سياسيّاً على الدوام، أردت ذلك ولم تتبْ. هل من تفضيل؟ الكتب تخيّب أقلّ من الأشخاص؟ الثقافة سياسة بديلة؟
الكتب وسواسي القهريّ منذ الطفولة، جمعت في سنوات الدراسة الثانويّة والجامعيّة مكتبةً عامرة بالعربيّة والفرنسيّة. عملت قبل مُغادرتي دمشق في مكتبة ابن سينا المُختصّة بالكتب الفرنسيّة، وكان هذا أوّل عملٍ مأجورٍ أُمارسه. وفي باريس أمضيت أربعة عشر عاماً قيّماً للكتب والدوريّات العربيّة في معهد اللغات والحضارات الشرقيّة، وتولّيت فيما بعد خمس سنوات إدارة مكتبة معهد العالم العربيّ، وأوكلت إليّ مرّتين مهمّة إعداد ببليوغرافيا المؤّلّفات الفرنسيّة المُتوفّرة عن العالم العربيّ، وعُيّنت ثلاث مرّات مُفوّضاً لمعرض الكتاب العربيّ الفرنسيّ، ولم أكفّ في حياتي عن اقتناء الكتب. أُحبّها، أحبّ ملمسها ورائحتها، وها أنا، في أرذل العمر، لم أزلْ ناشر كتب! هذا الوسواس مرضٌ عُضال يا ياسين، وتفسيره في علم النفس على ما يبدو أنّ العاجز عن بلوغ المعرفة يستعيض عنها بتملّك أدواتها! وربّما كان له تفسيرٌ فرويديّ مثل التعويض عن شبقٍ إيروتيكيّ دائمٍ ومكبوت! هوسي بالسياسة قديمٌ أيضاً. «صرعت» زملائي في المدرسة الإعداديّة، وأنا بعد في السنة الثانية عشرة من عمري، بتأميم القنال والعدوان الثلاثي وثورة الجزائر، وكنت مُدمناً منذ تلك الأيّام على الاستماع إلى الإذاعات وقراءة الصحف، أتفاعل مع الأحداث بحماسةٍ مفرطة، مع ما تجرّه الحماسة من عثراتٍ وخيبات، ولم يغبْ الهمّ السياسيّ فيما بعد عن أيّ خطوةٍ خطوتها في الحياة.
سأُجيب عن سؤاليك الأوّل والثالث بجوابٍ أعتقد أنّك تنتظره منّي: كلّا، لا تفضيل بين الثقافة والسياسة، ولا يُمكن في نظري أن تكون الثقافة بديلاً عن السياسة، حتّى عند المُختصّين بالعلوم البحتة والتطبيقيّة، والعكس صحيحٌ أيضاً حتّى عند مُحترفي السياسة كما عرّفهم ماكس فيبر. ليس من السهل تلخيص العلاقة بين هذين الحقلين، إذ أنّها تُحيل إلى خصوصيّة كلٍّ منهما واستقلاله عن الآخر، ولكنْ أيضاً إلى أشكال حضور كلٍّ منهما في الآخر، وإلى التزام المُثقّفين السياسي، وهل هو التزامٌ في أعمالهم الثقافيّة فقط (الفكريّة، الأدبيّة، الفنّيّة، وما هي الحدود التي ينبغي أن لا يتعدّاها) أم يُحتّم عليهم الانخراط في النضال السياسيّ. تابعت في فرنسا منذ أواسط الستّينات سجالات قاسية أحياناً حول هذه النقاط أثارتها مكانة سارتر المرجعيّة وردود فعل بعض كبار المُفكّرين على انتفاضة أيّار 1968، ثمّ أزمة «النبوءات الكونيّة»، وكان المقصود بها الماركسيّة تحديداً، وما أسفرت عنه من إحجامٍ الجيل الشابّ عن الالتزام السياسيّ، ثمّ مواقف بيير بورديو منذ التسعينات وإصراره على تثمير «رأسماله الرمزيّ» في مكافحة السياسات النيوليبرالية. ما تأكّد تدريجيّاً في غضون هذه السنوات الخمسين هو «تجزئة» السياسة من قبل المُثقّفين، أعني الانشغال بقضايا لا تمسّ سلطة الدولة، ولا تقتضي مُعالجتها تنظيماً سياسيّاً جامعاً، بل تنحصر في التحرّر من الموروثات القمعيّة في الحياة اليوميّة، وفي مُقاومة السلطات الفرعيّة، أو «التحتيّة» إذا صحّ التعبير، كالتي حلّلها ونظّر لها ميشيل فوكو. تحقّقت بذلك مكاسب مُجتمعيّة جُزئيّة لا يُستهان بها، وانتكست المطالب الاجتماعيّة العامّة.
ولا شكّ في أنّ الامتناع عن الالتزام السياسيّ، أكان يساريّاً أو ليبيراليّاً، والحذر بصورةٍ عامّة من الإيديولوجيّات السياسيّة، من أسباب ازدهار الشعبويّة، وغالباً ما تتداخل فيها المطالب المُحقّة مع الأحقاد المُتراكمة على «النُخب» السياسيّة في السلطة والمُعارضة على السواء ومع النزعات الفطريّة المؤامراتيّة، على نحو ما رأيناه في ظاهرة الستر الصفراء في فرنسا. وهما كذلك، على صعيدٍ آخر، السبب الأوّل في الانكفاء الشائع على مُنظمات المُجتمع المدنيّ، وحلول الناشطين المدنيّين المحترفين محلّ المُناضلين السياسيّين في الفضاء العامّ. وأنا واثقٌ من أنّ استعصاء أيّ تقدّمٍ في البلدان العربيّة في اتجاه التغيير الديموقراطيّ، على الرغم من انتفاضاتها الشعبيّة العظيمة، لا يرجع فقط إلى تغوّل الأنظمة القائمة، ولا إلى الاستقطاب القومي أو الطائفي أو الجهوي، ولا إلى الظروف الإقليميّة والدوليّة غير المُلائمة، ولكنْ أيضاً إلى غياب تنظيماتٍ سياسيّة ديموقراطيّة قادرةٍ على بلورة برنامجٍ عمليّ وعلى إدارة التحالفات بما يلزم من صرامةٍ ومن حكمة معاً.
سؤالك الثاني، هل تُخيّب الكتب أكثر من الأشخاص، ذكّرني بنصٍّ للجاحظ يمدح فيه الكتاب ويقول فيه: «هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك، والرفيق الذي لا يملّك». هذا صحيح، ولكنّ صحبة بعض الأشخاص أفضل من أفضل كتاب. سنختارهم معاً حين نلتقي!
——–
عن موقع “الجمهورية.نت”