الرجل الحر لن يقبل بديلًا عن المرأة الحرة / د. منى حلمى
تُرى من أين تبدأ حرية الرجل؟ متى يكون للرجال حقوق على مجتمعاتهم؟ وما «توليفة» هذه الحقوق والحريات؟ وهل هى ثابتة أم متغيرة لتسع امتداد عمر الرجال؟
لا نعتقد أن أحدًا يمكنه المجادلة حين نقول إن أول الحقوق وأولى الحريات، تبدأ مع الطفولة التى تشهد بدايات وعى الطفل الولد بالعالم الخارجى، منذ لحظة انفصاله عن رحم الأم، أو كما يسميها علماء النفس «صدمة الميلاد»، فى هذه المرحلة تتحدد الملامح الأساسية لرجل المستقبل.
تتشكل فى الطفولة، نظرة الولد لمعنى وحدود السلطة أو إلى «عالم الكبار»، يجسده فى البيت الأب والأم، وفى المدرسة يجسده الناظر والمدرس.. وهى مسألة مهمة حيث إن العلاقة بـ«الكبار» تمس- فى جوهرها- مساحة الحرية الممارسة، والشكل اللاواعى لمعنى «الأنا» و«الآخر».
يبدأ حق الطفل الولد فى أن يفلت من سلطة الكبار الذين يملكون الغذاء والحماية والفلوس والقرار، بينما هو ضعيف لا حول له ولا قوة، هذا سيعفى الولد من الكذب والالتواء، لينال ما يريده دون عقاب.
من حق الولد فى طفولته أن يلعب ويتساءل ويكتشف هوايته المحببة ويمارسها.. من حقه أن يتخيل دون خوف، من حقه أن ينقد الكبار، من حقه ألا نسخر من محدودية إدراكه، من حق الطفل الولد أن يختلط بالأطفال البنات دون أن يشعر بالذنب أو الخطيئة.
فإذا ما كبر هذا الولد ودخل مرحلة المراهقة اتسعت دائرة حقوقه وحرياته التى لا بد أن يكفلها له المجتمع الصغير والكبير. فهو على أعتاب الرجولة وتقلقه تساؤلات حول استقلاله وتفرده، توتّره العلاقة بالجنس الآخر و«عالم الكبار» أصبح الآن الحياة العريضة التى يريد وضع بصمته عليها.
لا بد أن نضمن له حرية الخطأ والتجربة وكل مساحة حركة يثبت من خلالها أنه «موجود» و«مؤثر» سواء بالرأى أو الفعل أو حتى بالصمت وعدم الفعل إذا كان هذا اختياره. وفى مرحلة الجامعة ثم الوظيفة من حقه أن يتكفل المجتمع بتوفير التعليم الذى يلائم اتجاهاته وقدراته، وكذلك بتوفير العمل الذى يحقق ذاته فيه كإنسان مبدع مفكر يستطيع إثراء حياته الخاصة وحياة مجتمعه.
ثم يريد هذا الرجل أن يتوج دائرة الحقوق والحريات التى ضمنها له المجتمع منذ الطفولة، يريد الرجل أن يكمل «نصف دينه»، يتلفت رجلنا حوله يبحث عن المرأة التى يمكن معها أن يخفق القلب ويمكن أن تكون مسئولية الأسرة معها متعة وإضافة وليست شرًا لا بد منه.
يبحث رجلنا بين النساء ترى منْ تعجبه وتثير فضوله؟ الرجل حقًا فى مشكلة وبحثه لن يكون سهلًا.
لقد كفل له المجتمع منذ «صدمة الميلاد» وحتى «تحقيق الذات»، مسيرة حقوق وحريات قائمة على حرية اللعب، والنقد والفعل والسؤال وليس هناك أى سبب يدعونا لافتراض أن هذا الرجل حين يفكر فى المرأة لن يبحث عن واحدة لم تعرف هذه الحقوق والحريات نفسها إلا إذا كان مريضًا نفسيًا.
إذا كان رجلنا سويًا نفسيًا- ولا بد أن يكون لأن الصحة النفسية هى نتاج طبيعى للحرية- فإنه لن يرضى ولن يقنع أو كما يقال لن «تملى عينه»، إلا امرأة لها مقومات شخصيته، هذا هو المنطق البسيط ومع بساطته لا يحدث، فالمجتمع نفسه الذى حرص على خلق الرجل الحر المتمتع بجميع حقوقه نسى أن يضمنها للنصف الآخر، وبالتالى نكون أمام الصورة السائدة والغالبة:
هو: تربى على الحرية. هى: تربت على القهر. هو: تربى على نقد الكبار. هى: تربت على حاضر ونعم. هو: تربى على الاختلاط مع البنات. هى: تربت على أن الرجال ذئاب وشياطين.. ولكن المفارقة أنها تربت أن تخضع لهم، أو أن الرجل هو «الحل» الأمثل لحياتها. هو: تربى على أهمية التفكير والعقل. هى: تربت على أهمية تجميل الوجه والجسد. هو: تربى على خوض التجارب. هى: تربت على التراجع والانسحاب. هو: تربى على أنه سبب للفخر. هى: تربت على أنها «عورة». هو: تربى على أنها جزء من عالمه. هى: تربت على أنه كل عالمها.
هذه الصورة لا تعمل فقط ضد سعادة الرجل واستمتاعه بالحياة، وتحول دون الصحة النفسية، لكنها أيضًا، تسحب منه مزايا الحريات، ومعنى الحقوق التى كفلها له المجتمع منذ طفولته، ورعاها حتى أصبح رجلًا مكتملًا.
فهو يريد امرأة مسئولة عن نفسها، كما هو مسئول عن نفسه يريدها أن تستمتع معه بمتعة الشمس والهواء وممارسة الرياضة.
يريد من تستطيع أن تعترض إذا أخطأ، ومنْ إذا ضعف تستطيع إذكاء إرادته، يريد منْ تناقشه بالعقل والحجة فى أمورها وأمور مجتمعها وأمور العالم.
يريد امرأة مثله لعبت وتخيلت ومارست هوايتها حينما كانت طفلة، فتستطيع الآن تذوق الفن معه، يريد امرأة بينه وبينها لغة مشتركة، دون كل هذا تصبح المرأة عبئًا نفسيًا وماديًا على الرجل.
الوضع الطبيعى والمنطقى والسوى نفسيًا، أن يطالب هذا الرجل «الذى تابعنا مسيرته» المجتمع بالبقية الباقية، التى تكون مسك ختام حقوقه وحرياته ألا وهى حقه فى امرأة حرة كجزء عضوى من حقوق «المواطنة».
الرجل الحر لن يقبل بأقل من امرأة حرة، ونسأل أنفسنا وفقًا لهذا المنطق: كم من الرجال الأحرار حولنا؟.