في واقع الحزب السوري القومي الاجتماعي ومصيره / نزار سلّوم
لا يستهدف، هذا النَص، المعنويات ولا الإيمان الراسخ بالنهضة والثقة بها، حيث وظيفته، وعلى نحوٍ مؤكّد، محدّدة ومعيّنة في محاولة رفع منسوب ودرجة الشعور بالخطر الذي يهدّد الحزب السوري القومي الاجتماعي، ليس في معناه ودوره وحسب، بل في وجوده ومصيره ومستقبله. إن لم نتمكّن من الوقوف في وجه هذا الخطر، ستجتاح الكارثة جسدنا في محاولة لإخماد روحنا والقضاء على أجمل ما أتت به سورية في عصورها الحديثة.
-1-
وصفيّاً، الحزب السوري القومي الاجتماعي في واقعه الراهن: كيانات تنظيمية ولجان ومجموعات وجماعات وأفراد. الانشقاق التقليدي بين فريقين لم يعد وضعاً كافيّاً، لتتألف الجماعات والحركات المتعدّدة والمستقلّة، فيما انزوى أفراد كثر وانتشروا عشوائياً وبعيداً.
الكيان، بمعناه المجازي هنا، هو وجود ناقص ومشوَّه، وجود مُقتطع من (أصلٍ كامل) لم يعُد مع هذا الاقتطاع (كاملاً)، بأي مقياس. الكيانات السياسيّة تقع منهجيّاً تحت معنى هذا المصطلح، والحزب السوري القومي الاجتماعي، يقع الآن تحت معنى هذا المصطلح، وأكثر من أيّ وقت مضى.
يوجد إلى هذه اللحظة، ثلاثة كيانات تنظيميّة مستقلة بنفسها تتوازع جسد الحزب وخريطته. هي، على خلاف الكيانات السياسيّة التي تتوازع خريطة الأمّة، لم تنشأ بقرار من عصبة الأمم في سان – ريمو 1920، استناداً إلى اتفاقية سايكس – بيكو 1916، بل نشأت بفعلٍ ذاتي – داخلي، أو باستجابة ذاتيّة لمحرضّات وعوامل محيطة بها، ما يُشهر خطر تفتيت (بذرة النهضة) المغروسة في جسد الأمة وروحها في عام 1932، التي هوت عليها مطرقة الانشقاق، لأول مرة، في عام 1957، لنستذوق ذلك الطعم (المرّ)، ولتضعف مناعة الوحدة، فتتالى مناسبات الانشقاقات وتتكرر ثم تتراجع نحو الوحدة، لتعود الآن لتعبّر عن نفسها بكيانين تنظيميين مستقلين جديدين إلى جانب شقيقهما البكر والعريق والمُكتفي بنفسه.
-2-
كان من شأن دماء أنطون سعادة المسفوحة في الثامن من تموز 1949، أن تدفع النهضة قدماً نحو مشارف الانتصار، لكن حادثة مقتل عدنان المالكي في عام 1955، وضعت حدّاً لذلك الفيض الكبير وفتحت باب الكارثة على مصراعيه. فما بين تموز 1949 ونيسان 1955، تم استكمال كلّ اللوازم الضرورية التي أدت لاحقاً إلى تغيير مستقبل (الشرق الأوسط). كان ضرب الحزب في الشام وتغييبه الشرط الأول والحاسم في هذه العمليّة.
تغيرت الخريطة السياسيّة برمّتها مرات ومرات، ونحن ما زلنا نواظب على قراءة (الحدث – الكارثة) بشخصانيّة مُغلقة، وكأننا في مخبر معزول! وكأن ضرب الحزب في الشام عام 1955، كان خطأً في طريقة اللعب، وليس حادثاً تاريخيّاً حرف اتجاه الحدث، وقلّص مساحة عمل الحزب بإقصائه عن (المنصّة الرابطة) لأجنحة سوريّة الطبيعيّة من جهاتها كافة!
استذكار هذا الحادث يفيد منهجياً، في اختيار منظار الرؤية الذي يمكّننا من رؤية ذاتنا في إطار حركة التاريخ، وليس من منظارٍ، عينه اليمنى اسمها جورج عبد المسيح وعينه اليسرى اسمها عصام المحايري!
هل نرى ما يحيط بنا فعلاً؟
هل نرى التحديات المصيرية التي تواجه أمتنا، وما هو مأمول منّا فعلاً؟
هل نرى ما هي الأخطار الجسيمة المحدقة بنا فعلاً؟
هل منظار الرؤية الذي نعتمده يُرينا مشهد التاريخ الذي نحن فيه، أم هو مُصمم كي لا نرى إلّا بعضنا كأخصام في طريق العداوة؟
غيّروا منظار الرؤية.
-3-
تعمل الكيانات التنظيميّة المولودة، على استكمال كل اللوازم التي تمكّنها من (الاستقلال)، وللتو، يرتسم ندّها – خصمها (مَن كان للأمس بعضاً منها أو هو نفسها)، يرتسم بوجوده كمحفّزٍ يدفعها لإظهار قدرتها على العمل والاجتهاد في تبيان التمايز والاختلاف الذي يأتي كبرهان واقعيّ ملموس في سياق تشريع (استقلالها). سيستمر الاندفاع بعض الوقت، ثم سيخبو رويداً… رويداً، مع تلاشي أهمية وظيفته، ومع عودة (جرح الانشقاق) للتورّم والنزيف.
تحاول الكيانات التنظيميّة التمدّد والاسترخاء لترسيم حدودها في أبعد نقطة ممكنة من مساحة الحزب في خريطته القديمة، ولذلك ستحاول حسم أحقيتها في بعض (المناطق الحدودية المتشابكة والمتنازَع عليها). هي محكومة بعلاقاتها مع بعضها، بالمنطق الذي يحكم علاقات الكيانات السياسيّة تماماً: صداقة، خصومة، عداوة، تحالفات، مواجهات…
رغم ذلك، ستبقى مبادرات الوحدة موجودة وحاضرة ومتعدّدة، وسيستقبل رؤساء الكيانات التنظيميّة أصحاب المبادرات ويثنون على نشاطهم، ويأخذون صورة تذكاريّة تشجيعيّة معهم، ويودعونهم مع بيانات تؤكد تجاوبهم مع أيّ مسعى توحيدي. (هو مشهد منسوخ من سياق سلوك رؤساء الكيانات السياسيّة – نسخة طبق الأصل).
أعلن «استقلالي» التام عن سياسات الكيانات التنظيميّة وثقافتها ومناهجها، مع الحفاظ على اسمي في لوائح المديرية التي أتبع لها
ستحلّ مبادرات الوحدة بنداً دائماً على جدول أعمال الكيانات، وسنستغرق جميعاً، في عمل خاصٍ لابتكار صيغة وحدة لتجاوز واقع التجزئة، وسننفق وقتنا كلّه (سندخل مخبرنا المعزول ونبتعد عن الحدث العام الذي يعصف بتاريخنا)، سننفق وقتنا في البحث والتنقيب عمّا يمكن أن نفعله في سبيل (الوحدة). سنكتب الدراسات والأبحاث التي ستتناول مسائل الدستور وانبثاق السلطة والديمقراطيّة وبرامج تحديث الإدارة… وسيصيبنا العجب من تباين المستوى الرفيع الذي نكتشفه في فلسفتنا الدستورية ومرجعيتنا العقيديّة، مع المستوى الواقعي الميداني الذي نحن فيه!
بلى، قضي الأمر وارتسم واقعنا الراهن: ثلاثة كيانات تنظيميّة وجماعات ولجان وتجمعات، وها نحن في مواجهة الإشكاليّة الرئيسة المرتبطة بعلّة وجود القضيّة وعلّة وجود الحزب!
-4-
سنحاول تفكيك هذه الإشكاليّة، بالاعتماد على تحديدَين أساسيَّين للحزب عند سعادة، الأول باعتباره الحزب غير مشمول بالتعريف التقليدي للأحزاب، فهو نظراً لطبيعة عقيدته وغايته، حزب (غير عادي). والثاني باعتباره الحزب (فكرة وحركة تتناولان حياة أمّة بأسرها).
1-هل حافظ الحزب على نفسه كحزبٍ (غير عادي)؟ وما هي الدلائل والبراهين؟ وهل يمكن لحزب (القضيّة) أن يكون في الوقت نفسه حزب (البرنامج)؟ وكيف؟
هل دخول الحزب في بنية الدولة اللبنانيّة، ما بعد اتفاق الطائف 1989، وفي بنية الدولة الشاميّة اعتباراً من عام 2005، تطلّب منه أن يكون حزب (البرنامج)، مقابل ابتعاده عن معناه كحزب (القضيّة)؟ وهل تمكّن من أن يكون كذلك، أو أن حالة من (الفصام – الشيزوفرانيا) أصابته وهزّت معالم شخصيته ولا تزال؟
تساؤلات توليدية تستدعي غيرها بالتأكيد.
2-الحزب كـ (فكرة – عقيدة)، فيه من الفيض الزائد ما لا يمكن لأيّ (حامل) تنظيمي عادي رفعها وموضَعَتها وتحريكها. هل الحزب أمسى حاملاً تنظيمياً ضعيفاً؟
3-استتباعاً لذلك، هل الحزب كـ (حركة – مؤسسات) فيه من الخلل البنيوي ما لا يمكّنه من أن يكون (حاملاً) للعقيدة وموضّعاً لها على مسار الواقع؟ وتحت ثقل وفيض هذه العقيدة من جهة، وبفعل عوامل التهالك والتقادم التي أصابت (الحركة – المؤسسات) والإخفاقات التي وقعت فيها من جهة مقابلة، تفسّخ هذا (الحامل) وتصدّع بنيانه؟ وهل هو مهدّد بالانهيار؟
زمنيّاً، الفكرة – العقيدة – القضيّة، وُلدت قبل الحركة – الحامل.
سببيّاً، الفكرة استوجبت وجود الحامل.
في الارتسام المطابق: الأمّة موزّعة على حوامل متعددة: الكيانات السياسيّة. والحزب (الفكرة – العقيدة) موزع على حوامل متعددة: الكيانات التنظيميّة.
كيانات الأمة استحالت (دولاً فاشلة) أو تقاوم الفشل، وكيانات الحزب استحالت (تنظيمات فاشلة) أو تقاوم الفشل.
الآن، الأمة تعاني من كياناتها (دولها الفاشلة)، والعقيدة تعاني من كياناتها (تنظيماتها الفاشلة)، وعلى ذلك نحن أمام مواجهة حاسمة، تستوجب إعادة إنتاج (الحامل) على النحو الذي يلغي تعدد الكيانات التنظيميّة من جهة، وبما يمكّنه من رفع العقيدة الفيّاضة ووضعها على مسار حركة الواقع كي تتمكن من إنجاز ذاتها كقضيّة للأمة المتوازعة بين كيانات فاشلة واحتلالات لأرضها واستراتيجيات خارجية تطوقها وتسيطر على مقدّراتها ومصيرها.
إنْ لم نغيّر منظار الرؤية ونتجه لحسم هذه المواجهة، سنكون نحن من نصنع (الإفناء الذاتي) بأيدينا… ذلك هو التاريخ.
[أكرر: هذا النَص، بمضمونه ولغته، لرفع منسوب ودرجة الشعور بالخطر.]
-5-
إخبار: بالنظر لما يتضمنه هذا النَص، وخصوصاً إشاراته الواضحة نحو الواقع الكياني – التنظيمي المتعدد الذي يتوازع خريطة الحزب، أعلن (استقلالي) التام عن سياسات الكيانات التنظيميّة وثقافتها ومناهجها، مع الحفاظ على اسمي مسجّلاً في لوائح المديرية التي أتبع لها حيث أقيم. سأكرّس جهدي وفكري ووقتي، لتأدية التزامي في خدمة القضيّة التي وضعها سعادة وتعاقدنا معه من أجلها، والتي هي قضيّة سورية ومصيرها ومستقبلها. تحيا سوريّة
* نزار سلّوم. باحث وكاتب سوري
——-
عن دريدة “الأخبار” اللبنانية