عائدون

حِوَاريّاتُ الحُمصِي المُتفائِل مع الإدلبي المُتشائِل/ نجم الدين_ سمّان

رأيتُه في حمص مرّتين أو ثلاث؛ بينما كنتُ في الخدمة العسكرية الإلزامية مطلعَ تسعيناتِ قرنٍ مضى.
والتقيتُه في سهرةٍ حُمصيةٍ عامرة؛ وكان على الطرف الآخر للطاولة؛ فلم نستطع حواراً مُشتركاً؛ وبخاصةٍ.. لأنَّ السهرة كانت “ليلةَ وقفةِ العيد الوطنيّ لمدينة حمص: ليلة الأربعاء”.
لم أكن -وما زلتُ- لا أُقيِّم الانسانَ من مُجرَّدِ انتمائِهِ الايديولوجيّ أو الدينيّ أو المذهبيّ أو المَنَاطِقِيِّ والعشائريّ؛ بل أترك فُسحةً لأكتشفَ الإنسانيَّ والأخلاقيّ فيه؛ وقد كان منصور الأتاسي يجمعهما مع دماثةٍ في التعاملِ وخِفّةٍ في الدمِ حُمصيّةِ الجذور.
ثم كان من أوائلِ السوريين الذين التقيتهم في استانبول فترسّخت صداقتنا فيها؛ وقد جمعتنا التغريبةُ الكبرى من جديد؛ بينما كان كثيرٌ من السوريين يتغنَّونَ بمقولة أردوغان: “أنتم المهاجرون ونحن الأنصار”؛ فكان أولُ أسئلتي الساخرة لمنصور:
– أبو مطيع.. هلأ أردوغان من الأوس ولّا من الخَزرَج؟!”.
اهتزّت قامَتُهُ الطويلةُ الضخمة من الضحك؛ حتى أكاد أبدو بجانبه مثلَ طفلٍ في “الروضة” يقوم أبو مُطيع بإيصالِهِ الى بيتِ أهله.. بعد أن ضاع؛ او.. كما يُقال: مثل الرقم 10 لمن يرانا نتمشّى في “شيشلي” وصولاً إلى بيتينا في الحيِّ ذاتِه.
لم أترك لأبي مُطيع فرصةً حتى عاجَلتُهُ بالحملمنتشيَّة الثانية:
– ويُصدِّق بعضُ السوريين هنا؛ بأنّهم من صحابة النبيّ؛ ثمّ هاجروا إلى الأستانَةِ بدلاً مِن يثرب!!.
استندَ إلى أقربِ عمودِ إنارةٍ وهو يضحك؛ فعلّقت: – رفقاً بالأعمدة يا رفيق!. ثم سألني: – مَن يعتقد.. بأنّهً صَحَابيّ؟.
قلت: – كثيرون “وأخذتُ أعدُّ له على أصابعي العشرة”: الصحابيّ أحمد الجربا من عشيرة داحس والغبراء؛ والصحابيّ أنس العبدة من أحفاد أبرهة الحبشيّ؛ والصحابيّ الحاج محمد جورج صبرة رفيقكُم في اليسار واليساريّة؛ والصحابيّ القانونجِيّ: أبو بكر المالح؛ والصحابيُّ الحاج محمد ميشيل كيلو؛ والصحابيّ أحمد بلا طعمة؛ وصديقُنَا الائتلافيّ.. الصحابيّ خطيب بن بدلة؛ وحتى لا نُغفِلَ النساءَ فنكون مُعادينَ للجًندَر.. هناك الصحابيّةُ وزيرةُ “ثقافة الثقافة” في الحكومة المُؤقته؛ والصحابيُّ الصحافيُّ من العشر المُبشَّرِين بالجَنَّة: فايز سارة.
سالني أبو مطيع: – والعاشر؟!.
– لآ تطمَع.. فتظنّ بأني سأذكر صديقَكَ وابن جِلدَتِكَ الحُمصيّة د. برهان غليون؛ فجِنسِيَّتُه الفرنسيّة العِلمَانيّة.. تمنعُهُ أن يتطوَّبَ صحابياً.
وعلى مثل هذا؛ وأكثر.. كنّا نضحكُ طوالَ مشوارِ عودتنا إلى بيتينا من جلستنا الأسبوعيّة الجماعيّة في إحدى كافتريّات استانبول؛ فقد كانت عند منصور رغبةٌ مُتأصِلَةٌ في جَمعِ السوريين حول مائدةٍ وطنية مُوحدَة.. حتى لو كانت لاحتساء القهوة؛ وقد حاول في تركيا كثيراً.. وهو يعقد اللقاءات مع القوى والتيارات والأحزاب مِن يمينٍ إلى يسار؛ ومع تجمّعات السوريين المدنيّة في استانبول وفي سواها؛ ليجتمعوا.. برغم خلافاتهم واختلافاتهم؛ ولكن على أهدافٍ مُحدَّدة؛ لمُتابعة مشوار الحريّة الشائك والدامي والطويل.
حتى قلت له وأنا المتشائلُ على الدوام؛ لا يأخذني التفاؤل إلى أقصاه؛ كما لا يجذبني التشاؤم إلى اليأس والانكفاء: – تكادُ تُعدِينِي بتفاؤُلِك.. يا أبا مطيع.
فأجابني: – ولِمَ لا.. ألم يَحِن الوقت لنتجمَّع سويةً؟!.
قلتُ: – لا أعتقد.. فالزيتُ لا يتجمَّع إلا بعد قطافٍ وبعد عَصرٍ وعُسر شديدين بين أسنان الرَحَى؛ وهذا وقتُ الفرز في الثورات؛ وقتُ سقوطِ الأقنعة عن المُتسلِقين عليها؛ هذا وقتُ الأسئلة التي لا تكتفي بجوابٍ واحد؛ وستطول هذه الأوقات.. حتى يُمسِكَ السوريّونَ من جديدٍ بالبوصلة التي ضيَّعوها منذ عقود.
قال منصور: – وهل نجلسُ مكتوفي الأيدي ومُتفرقين؟!.
– لستُ ضد أيَّة مُحاولة إيجابية؛ لكنّها سيرورةُ الأمور؛ فثورتنا هذه لا تُشبِهُ ثورةً قبلها؛ حتى لو كانت ثمَّة تقاطعات؛ ويجب أن نقرأها من داخلها ومن خارجها أيضاً؛ وليس على مبدأ القياسِ الفِقهِيِّ بين شيئين.
سألني منصور بطريقةٍ ماركسية.. مُترجماً في لا وَعيهِ سؤالَ لينين: ما العمل!؛ ومُتابعاً دأبَهُ في الاستماع إلى رأيِ الآخرين:
– وكيف ترى الأمورَ الآنَ.. أيها المُتشائِل الإدلبيّ.
فقلت: – يُعوّمون النظام بقرارٍ من المافيا الدولية؛ ولا أعتقد بأنه يسقطُ.. إلا بقرارٍ دولي.
قاطعني أبو مطيع: – ونحن.. وكلُّ هذه التضحيات؟!.
قلت: – أما نحنُ.. فأفضلُ ما نستطيعُ فِعلَهُ حالياً؛ ألّا نكونَ ورقةً في يدِ غيرِ السوريين من أصدقاء الشعب السوري ومن أعدائه.. على السواء؛ مع مُتابعة نضالنا المدنيّ الديمقراطيّ والثقافي والقانوني.
وفي أحدِ لقاءاتنا الثنائية.. سألته:
– كيف سمّيتَ ابنكَ البِكر مُطيعاً؛ بينما لم تُطِع خالد بكداش حين انشقَقتَ عنه؛ ولا يوسف فيصل؛ ولا.. سواهما؛ ولا حكوماتِ آل الوحش؟!.
فضحك: – يمكِن أم مطيع قالت لي: سَمِّيه مُطيع.. فأطعَتها بشكل ديموقراطيّ.
علّقتُ: – طاعةُ الزوجات واجبةٌ.. يا أبا مطيع؛ وطاعةُ أولِي الأمرِ.. من أبغضِ الحَرَام.
ومرّةً كان يناقش بجديةٍ عن الانقلابات العسكرية في سوريا؛ فسألته ليلتقط انفاسه: – هل تعرف السبب غير المباشر لانقلاب القائد غير الأبدي؟!؛ قال: وما هو؟؛ قلت: الغيرة من آل الآتاسي فهُم لا ينجبون إلا الرؤساء؛ ولهذا قال حافظ لأنيسه:
– أما آنَ لآلِ الوحش.. أن يستأسِدُوا؟!
كنتُ أحسِدُ أبا مطيعٍ على محاولاته.. برغم تشاؤلي؛ وأُقدِّر كثيراً وطنيَّتَهُ الصافية؛ وعِشقَه المُزمِن لبلدنا سوريا؛ ولأنه بالضبط.. واحدٌ من الشرفاء القلائل الذين التقيتهم في استانبول؛ بينما يُسَمسِرُ آخرونَ.. بأقدارِ السوريين وبحياتهم اليومية في الداخل وفي تغريبتهم على السواء؛ وتستشري بينهم “عقلية الدكاكين” بكلِّ أصنافها: انتهازيةً وبراغماتيةً -مصلحجيَّة- وتبعيَّةً لهذا المحور الإقليميّ ولذاكَ المحور الدوليّ؛ وكذا المُرَاهنونَ لشدّةِ يأسِهم أو عن قناعةٍ: على مُعارضةِ المُحاصَصَةِ والمَحَاوِر.. مرّةً؛ وعلى “العرعور” مرةً؛ وثالثةً.. “على أردوغان” ورابعةً.. على غزوات “إخوة المنهج”؛ وخامسةً وليس أخيراً.. على ترامب؛ الخ.. الخ.
ستلزمُني صفحاتٌ لكتابةِ حِوارِيَّات المُتفائل والمُتشائل في استانبول؛ ومثلُهَا.. في تعِدادِ صفاتِ منصور أتاسي إنساناً ومناضلاً؛ ولم أكُ لأَرثِيه.. طالما أنِّي أتذكرُهُ في كلَّ حين؛ فأنا لا أحبّ البُكائيّات الميلودراميّة.
ولهذا.. سأختِمُ بهذه المُفارَقةِ التراجيكوميديّة.. كدأبِي على الدوام:
“كان منصور أتاسي طيلةَ حياتِهِ.. يدعو السوريينَ الأحرارَ للوحدة والتجمُّعِ معاً؛ وقد تجمَّعوا بالفعل فلَبُّوا نداءَهُ.. ولكن في مجلس عزائه؛ وسيتجمعون ثانيةً.. في مجلس تأبينه؛ ثم يتفرّقون عنه.. كلُّ واحدٍ منهُم في اتجاهٍ؛ وإلى.. كُلِّ اتجاهٍ؛ وحتى.. الحائطِ الأخير؛ حيث سيتجمعون هناك جميعُهُم.. مُرغَمِين!!!.
——–
/ عن صفحته في “الفيسبوك”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى