الوطن

صور من “سفر الرجوع” / عبد الرحمن ربوع (*)

نادرًا ما يُتحِفنا الزمان فيجود علينا برواية نقرؤها “تبلّ الرّيق”، تُظللنا أثناء قراءتها بغيمة نائمة تحجب عنا الحر والقر، وتنفث علينا نسائم ناعمة تجلبها لنا من مَرْج قريب مغطى بالبابونج أو النرجس أو أي زهر ذي عبق مُسْكِر أخّاذ، وتفتح قرائحنا حين نحكي أو نكتب عنها لنجاري بلاغتها ونضارع بيانها، فقلّما نتوفّق بقرار قراءة رواية “تفتح النفس”، تغذي الروح كما تغذي النفس، وتروي القلب كما تروي العقل، دون أن تُضْعِف مناعتنا فتُمْرِضنا أو تُحْبِط إرادتنا فنكتئب.
أعتبر نفسي محظوظًا أنا وكل من قرأ أو سيقرأ “سِفْر الرجوع” للكاتب محمد حبش كِنّو، لأنه احتمال نادر وحالة استثنائية تَعَثُّر القارئ بِنَصٍّ روائي سلس عقلاني بليغ كـ”سفر الرجوع”. فما أنْ يَصْدِمك ويُدْهِشك العنوان العبقري المستوحى من عهود مقدسة؛ حتى يُسْكِرك النثر، ويُنْشيْك الشعر، ويأسُرك السرد ويُحْكِم تَكْتيْفَكَ إلى كرسيك فلا تبرح حتى تبلغ مصبّ النهاية فتُشْبع مِنْ جوع وتُرْوى مِنْ عطش وتسكن مِنْ قلق.
ولعشاق اللغة أو لمَهْووسيْها في “سفر الرجوع” إرْبًا ومَلْفى، فهي “كومة” متروسة بالصور البيانية والاقتباسات التناصّية والاستلهامات الإشارية، ويمكن لأي ولكل قارئ لها الاستمتاع بما يقرأ وبما يرى وبما يتخيل دون ملل أو نَصَب، لأنها نموذجية للأدب السلس الممتنع.
وتشتمل الرواية على ديوان لطيف رشيق من بضع قصائد نُظِمَتْ لضرورة السياق والحكاية، تعبّر عن ملكة لدى الكاتب في نظم وقرض الشعر باحترافية واقتدار؛ احترافية التوظيف ضمن السياق، واقتدار الصور والمعاني والعواطف المتماشية مع روح النسق العام للرواية سواء النسق الكتابي (مفردات ومركبات وجمل واقتباسات) أو النسق الحكائي (العرض والحبكة والاستهلال والقفل).
وفيما يسْرَح المؤلف ويستطرد في الوصف والتصوير للشخصيات والمواقف والظروف المكانية الزمانية؛ فإن ذلك لم يَبْدُ مُمّلًا أو زائدًا عن الحد، فواضح أنّ مقص “المونتاج” لعب دورًا بارزًا في “تنحيف” الرواية ومنحها رشاقة محببة وخفة محبذة بما يقرّبها إلى القارئ ويشجعه على اشتهاء المزيد من الأسفار: سفر الرجوع2، سفر الرجوع3، سفر الرجوع4… فالموضوع “قماشة” غنية بالشخصيات والتجارب والوقائع التي لا تحتاج إلى خيال خصب واسع؛ بل تكفي موهبة السرد والتدوين والتوثيق لتسويد أسفار وأسفار، حتى إن الأدب الروائي السوري الحالي والآني يكاد يكون محوره الأساسي والرئيس اللجوء والنزوح مع بعض خطوط جانبية عن ملابسات الحرب، وعن طرائف وغرائب التعايش، وعن إحباطات الاندماج داخل البلد وخارجها.
إنها قصة كل كردي ولد وعاش في الشرق المغموس ترابه بالدم، المُشْبَع فضاؤه بالدخان، المُتْرع تاريخه بالخيانة والغدر. تنبسط أحداثها على جغرافيا تمتد من أربيل إلى برلين مرورًا بكوباني وحلب واسطنبول. ومع أن زمانها يستغرق السنوات العشر التالية لاندلاع الثورة السورية في ربيع 2011؛ إلا أن ذلك لم يمنع العودة أحيانًا بضعة عقود لتوضيح بعض الحيثيات الاجتماعية والسياسية، وتعليل بعض التشوّهات الشخصية والنفسية.
إنها مَرْثاة بكل معنى الكلمة. ترثي كل ألوان الفقد التي تعرض لها سوريون كثيرون على مدى أكثر من عشر سنوات، لكنها قبل ذلك وبعده، لن تسمح لك بالتوجُّع أو البكاء، ولن تسمح لوجهك بالتغيُّر أو التلوُّن، رغم الكمّ الهائل من التفاصيل الموجعة والمؤسفة، لأنها ستسافر بك دون توقف إلى ما هو أهم!.. ستسافر بك بـ”البلم” والحافلات والقطارات والطائرات، وأحيانًا مَشْيًا أو هرْوَلة أو ركضًا عبر الأفكار والرؤى والفلسفات والسَّفْسَطات والتبريرات، بعضها يمتد عُمْره إلى عشرة أو عشرين عامًا، وبعضها وُلِد بالأمس ومازال في المهد عَمِيًّا، بعضها يحمل مصحفًا وبعضها يتقلّد صليبًا. بعضها يلبس معطف ساعي
البريد أو يرتدي الجينز الـ”ديرتي” الممزَّق.
وعلى القارئ يقع عبء الحكم بنفسه على هذه الأفكار والرؤى والفلسفات والسَّفْسَطات والتبريرات، أو ربما يتأثر بالكاتب نفسه ويقف على الحياد يتأمل الكل وينصت للجميع، ثم يرميها خلفه أو يُسقطها تحته كما فعل “يوسف”، حيث ترك الجمل بما حمل وعاد إلى خبز وشاي “عائشة”.
كما سيتعيّن على القارئ طرح وتكرار نفس الأسئلة التي طرحها الكاتب ولم يُجِب عليها، ولن يجيب القارئ أيضًا، لأنها أسئلة لا فائدة ولا جدوى من الإجابة عليها، فمهما حاول المرء لن يصل إلى إجابة، وإنْ وصل، لا قدر الله، فلن يتمكن من التصرف حيالها، لأن إمكانياته كفرد أو كشعب أو كدولة لا يمكن مضاهاتها بإمكانيات من يتحكم ويسيطر على وجود الشخص وحركته ويتحكم ببقائه هو وشعبه ودولته، ولا يمكنه “إنْ أراد” إلا أن يزيد من انغراسه بأرضه كما ينغرس وتد خيمة بانتظار ريْح عاصف تقلع خيمته كلها، أو سَيْل جارف يجرفه بما حوْله وتحته.
لا يمكن القول إن “سفر الرجوع” رواية مثالية، ومَنْ يجرؤ على ادّعاء ذلك حتى بالنسبة لـ”مئة عام من العزلة” لغابرييل جارسيا ماركيز؟، لكنها باختصار رواية مريحة وصريحة لأوْجَعِ مأساة مرَّ بها السوريون منذ عقود، كـ”سفربرلك”، أو منذ قرون، كـ”الحملات الصليبية”. وهي أيضًا رواية مخفَّفة ومبسَّطة لأسوء مَبْكاة أدمت الأرواح قبل أن تُدمع العيون. إنها قصة عن “يوسف” كقصة يوسف بن يعقوب، حاول إخوته قتله ففشلوا، وحاولت ظروفه كسره فأخفقت، وفيما عاد يوسف إسرائيل إلى أبيه وأمه أو عادا إليه لتنتهي حكايته، عاد يوسفنا إلى أمه ليبدأ حكايته.
————
(*) عبدالرحمن ربوع هو كاتب وصحفي سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى