المجتمع

المساكنة في دمشق؛ التمرد والحياة الموازية / ميسا صالح (*)

دائماً كان موضوع المساكنة بالنسبة لي هو التجسيد الأقوى لمعنى التحدي الاجتماعي، وخاصة تلك التجارب المرتبطة بنساء سوريات أو عربيات خُضنَ هذه المعارك مع مجتمعاتهنّ، وواجهنَ عنفاً بأشكال متنوعة نتيجة اختيارهنّ نمط حياة غير تقليدي. ما زلتُ أذكر المرة الأولى التي سمعتُ فيها بتجربة المساكنة، وبمصطلح المساكنة بمعنى أن «شخصين قرّرا بالتراضي العيشَ معاً تحت سقف واحد دون عقد زواج». كنتُ وقتها قد خرجت لتوي من مجتمع محافظ وتقليدي، في قرية صغيرة لا مكان فيها للحريات الشخصية ولا للعلاقات غير التقليدية، من مجتمع ذكوري ذي وصاية كاملة على خيارات الشباب ونمط حياتهم، وخاصة النساء منهم. أذكر تماماً أن شعوري حينها تجاه فكرة المساكنة، وتجاه تلك المرأة بشكل خاص، كان مليئاً بالفخر والاحترام والاعجاب. تمثّلُ تلك السيدة بالنسبة لي حتى اليوم رمزاً لمعنى التحدي والاستقلالية والقوة والتحرر والانعتاق، وقد شكلت جزءاً كبيراً من وعيي تجاه شكل علاقاتي العاطفية وخياراتي الشخصية.

حدثَ ذلك قبل سنوات بعيدة، قبل العام 2011 وقبل أن يمرّ على البلد عقدُ الثورة وما حمله من تحولات كبيرة. اليوم، وفي ظل الانتشار الكبير لمؤسسات إعلامية إلكترونية مستقلة وتناولها لمواضيع اجتماعية غير تقليدية، نرى أن موضوع المساكنة ورغم من حساسيته الاجتماعية في بلادنا بدأ يأخذ حيزاً لا بأس به في التغطيات الإعلامية، التي يُظهر كثيرٌ منها صعوبة المواجهة التي يخوضها الشباب والشابات الذي يذهبون إلى هذا الخيار. ومن أجل فهم حجم المعاناة والتضحيات والمعارك التي يواجهونها، ومعرفة ما الذي يمكن أن يكون قد تغيّر خلال السنوات القليلة الماضية، تحدّثتُ إلى عدد من السوريين والسوريات المقيمين في دمشق، الذين عاشوا هذه التجارب كخيار بديل عن الزواج التقليدي.

التخفّي والكوابيس والحياة الموازية
ماريا هو اسم مستعار لشابة سورية، تعيش في دمشق تجربة المساكنة مع شريكها أحمد، (أيضاً اسم مستعار) منذ خمس سنوات. وكان الشريكان قد اختارا المساكنة كنمط لحياتهما، أولاً بسبب مشاعر الحب والصداقة والانسجام بينهما، ومن ثم بسبب انتمائهما لديانتين مختلفتين. ونتيجة استحالة قبول العلاقة بوسطهما الاجتماعي والعائلي، قرَّرَ كلٌّ من ماريا وأحمد العيش معاً في بيت واحد بسرية دون إخبار عائلة ماريا ومحيطها.

تقول ماريا: «أنا لا أؤمن بمؤسسة الزواج كخيار وحيد للعلاقات، وأرى أن الزواج بمعناه التقليدي غير عادل بالنسبة لي كامرأة، ولا أرغب بعيش نمط حياة يحكمه قانون أحوال شخصية لا يحترمني كفرد مساوٍ للرجل، ولا يُنصفني ويحفظ حقوقي». ترى ماريا «أن المساكنة هي أقل ضرراً بكثير للنساء من الزواج التقليدي، الذي يضعهنّ في قوالب محددة يترتب عليها الكثير من الخضوع لما هو مُتعارَف عليه اجتماعياً».

دفعَ خيار المساكنة ماريا وأحمد إلى حياتبن متوازيتين، لا تشبه إحداها الأخرى، حياة سرية يدخلها فقط الأصدقاء المقربون جداً والموثوقون الذين غالبهم يعيشون التجربة نفسها، وأُخرى هي الحياة المعلنة للعائلة والمحيط الاجتماعي، الذي يتم التحايل عليه بطرق مختلفة. فماريا لا تستطيع إخبار عائلتها التي تعيش في مدينة أخرى عن علاقتها بأحمد، ليس فقط بسبب أنه من ديانة مختلفة، بل لأن أي علاقة سترتبط بها ماريا لن تكون مُرضية لعائلتها إلا إذا كانت ستنتهي بالزواج التقليدي المتعارف عليه.

ومن أجل إبقاء العلاقة مع عائلتها مستمرة، تعيش ماريا حياة مزدوجة مليئة بالقلق والخوف والمخاطرة. فأمام عائلتها تعيش مع صديقاتها في سكن مشترك، وعندما تقرر عائلتها زيارتها في دمشق تقوم بالتعاون مع صديقاتها بتهيئة الشقة بشكل كامل وبطريقة توحي بأنها مكانُ سكنها الوحيد: «أحياناً يتكلم معي أهلي وهم على أبواب دمشق لمفاجئتي بزيارة، وعادة ما يكون الوقت مبكراً جداً، فأضطر للملمة أشيائي بسرعة ووضعها في حقيبة ونقلها إلى شقة صديقاتي وأنا يتملّكني رعب من أن يصلوا قبلي».

لا تتوتر حياة ماريا فقط عند زيارة أهلها، فهي تعيش قلقاً دائماً يشكل لها كوابيس يومية تؤثر على توازنها النفسي. «يمكن هلأ إذا حكيتلك هي الشغلة حتحسيني مريضة نفسياً» تقول ماريا، مضيفة: «أكبر كوابيسي اليومية هي أن أموت وأنا في شقة شريكي بينما أستحمّ عارية، أو كابوس نشوب حريق ما وأنا عارية لأي سبب. هذا الكابوس يؤرقني بشكل حقيقي ويؤثر على صحتي النفسية، ودائماً ما أوصي أحمد أن يقوم بوضع ثيابي عليَّ ونقلي من بيته إذا متّ عنده، لأنني لا أريد أن أموت فلا تحزن عليّ عائلتي، أو أن يتبرأوا مني لأنهم سيشعرون أنني سبّبتُ لهم العار. مجرد تفكري في أن هذه المشاعر هي آخر ما سينتاب عائلتي تجاهي بعد موتي يجعلني ضعيفة ومكسورة وخائفة كل الوقت».

يحمل الكثير من الشباب السوري كل هذا العبء النفسي، وكل هذه الدرجة من الإحساس بالخطر والتهديد الدائم، في ظل غياب أي مساحة آمنة للحريات شخصية، وهيمنة وصاية العادات والتقاليد والدين على أدق تفاصيل حياتهم، ما يجعل كثيرين منهم يشعرون بعدم الانتماء إلى المجتمع الذي تزداد نقمتهم عليه، ويضعهم في حالة حرب دائمة من أجل إثبات أحقيتهم بالحياة التي يرغبون ويؤمنون بها، وحقهم بصون صفتهم كجزء من المجتمع، وأنه لا يحق لأحد إقصاؤهم عنه فقط بسبب اختيارهم نمط حياة مختلف.

تصف ماريا مشاعرها تجاه إقصائها اجتماعياً بسبب خياراتها الشخصية: «أحياناً أشعر بنقمة كبيرة تجاه المجتمع، وخاصة عندما تتكرر عبارات من قبيل: هذه ليست عاداتنا، يجب احترام المجتمع، المجتمع لا يتقبّل، هذا حرام، وذلك غير مقبول، وغيرها من العبارات المستفزّة التي سمعتها ملاين المرات منذ طفولتي، وكانت تصلني من والديَّ الشيوعييَن اللذَين يتبنيان فكراً منفتحاً نوعاً ما، إلا أنهما اختارا مهادنة المجتمع رغم عدم قناعتهما بما يُفرض عليهما اجتماعياً، ومارسا نفس السلطة المجتمعية علينا لحمايتنا، وهذا ما يجعلني أفّكر بشكل مستمر بسؤال: من هو المجتمع؟؟ إذا كان أهلي وأصدقائي والكثير من الأشخاص حولي غير مقتنعين بهذه العادات والتقاليد وما تفرضه علينا من أنماط حياة، فلماذا لا نواجهها بقوة وننقل هذا الصراع للعلن؟ ألسنا نحن المجتمع؟».

يتشارك مضر بلّول، وهو شاب سوري يبلغ من العمر 32 عاماً، مع ماريا فكرة عدم المهادنة والتماهي، وفكرة «الحق بالعيش وفق ما تؤمن به، وبالطريقة التي تختارها أنت وشريكك». يقول: «أنا أؤمن بالمساكنة، وأسعى جاهداً ألّا أساوم على حقي هذا، واخترتُ المواجهة المباشرة وبعلنية تامة أمام أهلي وأمام المجتمع».

اختار مضر المساكنة بدلاً عن الزواج لأسباب مختلفة، فهو يرى أن العلاقة بين الشريكين يجب أن تكون مبنية على المعرفة التامة لأدق التفاصيل في الحياة اليومية، وكيفية التعامل مع المصاعب وإيجاد الحلول التي تواجه الشريكين على كافة المستويات قبل اتخاذ خطوة الزواج وما تحمله مؤسسة الزواج من مسؤوليات وواجبات.

يقول أيضاً: «أؤمن أنه من حق أي شاب وفتاة أن يختارا شكل الحياة التي تربطهما دون أي ضغط مجتمعي أو ديني، لأن هذه العلاقة هي شيء خاص وشخصي، ولا يحتاج موافقات ولا قبولاً من أي طرف ثالث. وحتى يستطيع الطرفان المعنيان بالعلاقة اتخاذ قرارات كبيرة مثل الزواج إن أرادا، يجب أن يعرفا بعضهما تماماً بدون أي تجميل أو مجاملات أو مساومات، فأنا أريد أن أعرف شريكتي كيف تفكر، وما الأشياء التي تُحزنها، وما الأشياء التي تجعلها سعيدة، وما هو شكل الحياة الذي تفضلّه معي، وكيف سنواجه الصعوبات اليومية معاً، وأريدها بالمقابل أن تعرف كل هذا عني، ومن ضمنها تجربتنا الجنسية وعلاقتنا بجسدينا. هنا لا أقول طبعاً إنها الشيء الأساسي في التجربة، إلا أنها في رأيي لا تقلّ أهمية عن كل التفاصيل السابقة».

عاش مضر مواجهة مفتوحة مع عائلته والمجتمع المحيط به بسبب خياره وشريكته المساكنة بدلاً من الزواج، وتعرضا لمواقف عنيفة في بعض الأحيان من قبل الجيران الذين مارسوا رقابة ووصاية، وأعطوا لأنفسهم الحق في نقل أسلوب حياة مضر بشكل سلبي ومشوه لعائلته التي تعيش في مدينة أخرى، مما جعل عائلته تمارس سلطتها من أجل محاولة تغيير نمط حياته.

«كنتُ وشريكتي نعيش في حي التضامن الشعبي في دمشق، في الجزء الذي يقبع تحت سيطرة النظام. وعلى الرغم من أن أهل المنطقة يعرفونني جيداً منذ زمن طويل، إلا أنهم لم يكلّفوا أنفسهم محاولة فهم نمط حياتي وأن يحترموا خياراتي، فعندما قررت شريكتي الانتقال للعيش معي في نهاية العام 2015، بدأوا بإزعاجها في كل مرة تخرج فيها من المنزل، وكانوا يتصلون بأهلي موبخين إياهم على تربيتي وأخلاقي السيئين، وأدّعوا أنني “فاتح بيت دعارة”. كان هذا الادعاء مؤذياً جداً لي ولشريكتي، ما جعلني آخذ قراراً بإسكاتهم ومواجهتهم بشكل واضح، وأعتقد أنني استطعتُ أن أوقفهم عند حدهم، فلن أسمح لا لأهلي ولا لمحيطي بالإساءة لشريكتي ولي بهذه الطريقة».

انتهت العلاقة لاحقاً بين مضر وصديقته، وغادر دمشق ليستقرّ في بيروت في مطلع العام 2021. وعلى الرغم من أن العلاقة وتفاصيل الحياة اليومية كانت صعبة ومتعبة لمضر، إلا أن هذه التجربة رسّخت الكثير من الاعتقادات التي زادت إيمانه أن المساكنة هي الطريق الصحيح للعلاقات: «اليوم أعيش في بيروت ومن حولي أصدقاء كثيرون يعيشون المساكنة بشكل علني، وذلك لوجود هامش حريات شخصية غير متوفر في دمشق بسبب الرقابة الدينية والمجتمعية والأمنية. واليوم، أصبحت مقتنعاً أكثر أن المساكنة هي حل أكثر واقعية وأقل ضرراً لكلا الطرفين، وأصبحت متيقناً أن خيار الزواج وتأسيس عائلة مستقرة مبنية على فهم الآخر وتقبله يمر حصراً عبر تجربة السكن مع الشريك قبل الإقبال على هذه الخطوة. لن أقدم تنازلات عن حقي هذا لصالح أهلي أو المجتمع، ولا لسلطة العادات والتقاليد والدين، لأنها حياتي وأنا من يقرر الشكل المناسب لعيشها».

لا يقتصر الرعب الذي يرافق الشباب الذين اختاروا العيش معاً في كل الحالات فقط على ردة فعل الأهل والمجتمع، بل يصل أحياناً الى الخوف من الابتزاز الأمني. يقول عماد، وهو اسم مستعار لشاب فلسطيني-سوري عمره 25 سنة، وعاش تجربة السكن في بيت مشترك مع شريكته مطلع العام 2020: «عشتُ التجربة مع صديقتي بسرّية كاملة، لا يعرف عنها إلا أصدقائنا المقربون والموثوقون، واستطعنا أن نخفي الموضوع تماماً عن عائلاتنا ومجتمعنا بحكم وجود عائلة صديقتي في مدينة أخرى واستقلالي التام عن عائلتي رغم وجودهم بنفس المدينة. وعلى الرغم من السرّية، إلا أننا كنا نعيش حالة ترقب كاملة بسبب عودة انتشار ما كان يعرف بـ”شرطة الأخلاقية”، وبتنا نسمع الكثير من الحوادث التي تعرَّضَ فيها شباب وصبايا لمسائلة من قبل الشرطة». يقول عماد عند سؤاله إذا ما كانت هذه الشرطة فعلاً تطلق على نفسها تسمية «شرطة الأخلاقية» بشكل رسمي: «لا… هم لا يصفون أنفسهم بالشرطة الأخلاقية وإنما فقط شرطة، لكنهم يقومون بإيقاف الشباب والصبايا حتى في أماكن عامة أحياناً، وطلب هوياتهم وابتزازهم وتهديدهم بالسجن من أجل دفع رشاوى». يروي عماد قصة حدثت معه ومع شريكته في شوارع دمشق: «كنا في أحد المرات أنا وصديقتي جالسين فقط في السيارة، عندما جاء شرطيان وبدءا بتوبيخنا واستفزازنا بعبارات مسيئة، ورغم دفاعنا عن أنفسنا بأننا لا نفعل شيئاً خاطئاً، إلا أنهم استمروا قي مضايقتنا وأخذوا هوياتنا وهددونا بالسجن بحجة الإخلال بالآداب العامة، وانتهت القصة بدفع مبلغ من المال مقابل تركنا وشأننا».

شرطة الأخلاقية تعود بوجوه جديدة
سمعتُ من الأشخاص العديدين الذين تحدثتُ إليهم عن اعتداءات عنيفة تعرَّض لها أشخاص عاشوا تجربة المساكنة، بعضها مصدره عناصر شرطة أو عناصر أمن، وبعضها مصدره أشخاص عاديون من جيران أو أقارب. تحدثتُ أيضاً إلى بعض ضحايا هذه الجرائم، لكنهم رفضوا جميعاً رواية أي تفاصيل عن ظروف ونوعية الاعتداءات التي تعرضوا لها. يتحدث الناجون من تلك الاعتداءات عن خوفهم الشديد من احتمال التعرّف عليهم نتيجة نشر التفاصيل، ورغم وعودي القاطعة بإخفاء المصادر، ووعودي بصياغة التفاصيل بحيث لا يمكن أن تدلّ على أصحاب الشهادات، إلا أنهم رفضوا.

يشير هذا إلى مقدار الخوف، وإلى غياب أي ضمانات تحول دون تكرار الاعتداءات والجرائم. لا يستطيع من يعيشون تجارب مثل تجربة المساكنة أن يراهنوا على أي حماية من أجهزة الدولة، لأن جميع الشهادات تحدثت عن أن حضور عناصر الشرطة كان مرتبطاً دائماً بالابتزاز من أجل تحصيل مبالغ مالية وليس بتقديم الحماية لهم. ويبدو أن انتهاكات هذه الأجهزة تتوسع على هذا الصعيد لتخترق أكثر اللحظات حميمية وخصوصية، ولعلّ هذا المشهد لم يكن غريباً على حياة السوريين، فقصص التدخل الأمني بالحياة الشخصية كانت تُشكل رعباً حقيقياً للشباب السوري، الذي كان فريسة لما كان يسمى الشرطة الأخلاقية (عناصر فرع حماية الآداب في الأمن الجنائي) طوال عقود، قبل أن يتم تخفيف حضورها بعد استلام بشار الأسد الحكم، وذلك في سياق ما تمّت تسميته وقتها «مسيرة الإصلاح والتطوير». كانت هذه الشرطة ترهب وتروع وتبتز السوريين في كل مكان، وخاصة الطلاب والطالبات الجامعين، الذين كانوا يعانون من سلطة هذه الشرطة وهمجيتها، حيث كانت تتربص لهم في الحرم الجامعي وفي الطرقات وفي المقاهي وفي الحدائق العامة. وعلى ما يبدو أن هذه المشاهد عادت لتتصاعد اليوم بشكل أعنف وأكثر اتّساعاً، إذ باتت «الشرطة الأخلاقية» تتجسد في أي رجل أمن أو شرطي، أو حتى أفرادٍ ذوي نفوذ أمني ممّن يُعرفون «بالشبيحة» الذين يرتكبون تجاوزات محمية من الأجهزة الأمنية، الذين لا يعملون تحت مُسمّى وظيفي رسمي، لكن لديهم صلاحيات مفتوحة نتيجة موالاتهم للسلطة وقتالهم إلى جانبها.

ثورة وهجرات وتغيّر اجتماعي لا يمكن كبحه
يتفق معظم من تمت مقابلتهم من الشباب والشابات الذين يعيشون تجربة المساكنة على أن السنوات العشر الماضية حملت كثيراً من التغير والصراع الاجتماعي، وخاصة ما يتعلق بالعائلة وقيمها والعادات والتقاليد ومؤسسة الزواج، وهو ما خلقَ تحدياً واضحاً بين من يتبنّون هذه القيم وبين جيل من الشباب يرغب في حياة مختلفة ترتكز على قيم وأخلاقيات تدعم الحريات والخيارات الشخصية. ولعل أهم الأسباب التي فتحت المجال أمام هذا التحدي، الذي يمكن اعتباره تمرداً اجتماعياً ودينياً، هي انفتاح المجتمع السوري على تجارب وعادات وتقاليد المجتمعات الأخرى من خلال الهجرة واللجوء ووسائل التواصل الاجتماعي. فاليوم، ومع الهجرات الكبيرة للشباب والعائلات السورية، واللجوء الى مجتمعات أوروبية ذات ثقافات مختلفة، نشاهد كثيراً من العلاقات والتجارب التي بات الحديث عنها علنياً في تمردٍ على العادات والتقاليد التي تحكم المجتمع السوري. بتنا نلاحظ مثلاً أن الكثير من السورين باتوا أكثر جرأة في إشهار هوياتهم الجنسية المختلفة، وفي الدفاع عن حقهم باختيار نمط حياتهم وخياراتهم الشخصية، ويحظى صدى هذه التجارب بدعم وقبول شديد من شباب سوريين ما يزالون في البلد، لتكون هذه التجارب العابرة للحدود مدخلاً لإعادة التفكير في المنظومة الأخلاقية والدينية التي تسيطر على أدق التفاصيل لحياة الفرد الشخصية.

وعلى الرغم من هذا الانفتاح على العالم، وتجارب السورين في الخارج، إلا أن الكثير من الشباب السوري اليوم محاصر في خياراته داخل سورية وحتى خارجها، فقيم الأسرة والعادات والتقاليد وسلطة الدين وغيرها من القيم، التي يزداد لجوء كثيرين إليها في وقت الأزمات، ما تزال تحاول أن تبقى ممسكة بزمام الأمور، خاصة في ظل فقدان الثقة والرضوض الاجتماعية التي ضربت المجتمع السوري خلال العقد الأخير، وهذا ما يجعل أي تجربة اجتماعية مختلفة عمّا هو متعارف عليه نضالاً يمكن أن يدفع شباب وشابات سوريون حياتهم ثمناً له.

ماريا: «ليس من المنصف أن يكون اختيار شكل حياتي الخاصة خاضعاً لكل هذا الرعب والرقابة، وأن تتحول تجربة شخصية وإنسانية كالمساكنة إلى كابوس حقيقي قد يتسبب بأذيتي النفسية والجسدية إلى هذا الحدّ. وعلى الرغم من أن شريكي داعمٌ لي ولا أشك في هذا الدعم، إلا أنني أشعر أحياناً بغضب شديد بسبب صعوبة الموضوع وخطورته المضاعفة كوني امرأة في مجتمع لا يرحم وقانون أحوال شخصية متواطئ».

مضر: «المساكنة ليست قراراً عشوائياً وليست مجرّد مدخلٍ لعلاقات جنسية كما يوحي أو يريد البعض اعتبارها، وإنما هي خيار بالتشارك والتجربة ومعرفة الشخص الذي أرغب بالعيش معه وقبوله، وليس من حق المجتمع تقييد هذا الخيار ودفعه باتجاه واحد طالما أن الطرفان المعنيان هم صاحبا الحق في توجيه علاقاتهما بالطريقة التي يجدانها مناسبة».

عماد: «على الرغم من أنني أعرف صديقتي منذ أربع سنوات، إلا أنني لم أعرفها بشكل عميق إلّا بعد انتقالي للعيش معها، حيث أُتيحَ لنا الوقتُ لنعرفَ أدق التفاصيل عن بعضنا البعض. وعلى الرغم من أنها تجربتي الأولى في المساكنة، إلا أنني كنت أشعر بالانتماء لهذه العلاقة، وكذلك شعرت بالأمان والاحتواء».
————-
(*) ميسا صالح هي إعلامية وناشطة حقوق الإنسان
/ عن موقع “الجمهورية.نت”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى