الوطن

الممكن والمستحيل في استكمال الحزام الأمني التركي في سوريا/ عبدالرحمن ربوع (*)

تستقتل تركيا لتنفيذ عملية عسكرية داخل سوريا تستكمل بها ما بدأته قبل أربع سنوات بإنشاء الحزام التركماني العربي الموالي لها على طول الحدود الممتدة من دجلة إلى أنطاكية. وبحسب المعلن من الأهداف تلقى العملية ترحيبًا داخل تركيا، وتنفيذها قد يمنح للرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية فرصة للاستمرار بضع سنوات أخرى في حكم البلاد.
فالهدف الأول؛ إبعاد حزب العمال الكردستاني “PKK” وأذرعه السورية عن الحدود مسافة كافية لتجنُّب أي خطر محتمل، سواء بشنِّ عمليات عسكرية مباشرة ضد مواقع عسكرية أو غير عسكرية، أو تنفيذ عمليات اختراق أمني وأعمال عدائية أو إرهابية أيضًا داخل تركيا. وهذا ما يتوقعه الأتراك كنتيجة حتمية لكل ما يمارسونه من ضغوط تهدد بقاء ووجود الـ”PKK”، خصوصًا في مناطق تواجده الرئيسة في إقليم كردستان العراق. ولا يمكن للرئيس أردوغان أو لحكومته السماح بوقوع أمر كهذا، لأنه سيعني أن مصيره ومصير حزبه أصبح على المحك، وأن ساعة الرحيل وصعود رئيس وحزب جديدين قد أَزِفَتْ.
الهدف الثاني؛ إتاحة الفرصة لإعادة نسبة كبيرة من اللاجئين السوريين الذين ضاق بهم الشعب التركي ذرعًا وأصبحوا عامل ضغط فعّال وورقة مساومة رابحة بيد المعارضة التركية التي نجحت في تعبئة الشارع ضد رئاسة أردوغان وضد حكومة حزبه باستغلال ملف استضافة اللاجئين السوريين، ولا خيار أمام أردوغان وحزب العدالة والتنمية لتفادي هذه الضغوط إلا الشروع بتنفيذ خطة شاملة لإعادة اللاجئين السوريين أو جزء كبير منهم إلى سوريا بعد تجهيز الأرضية المناسبة والبنية التحتية اللازمة، وهذا يقتضي أولًا إبعاد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” عشرة أو عشرين أو ثلاثين كيلومتر جنوبًا لتحل محلها فصائل سورية أخرى موالية لتركيا، تؤمّن عودة اللاجئين السوريين، الذين هم في معظمهم معارضون لـ”قسد”، أو لا ترحب بهم “قسد”، أو لا يمكنهم التعايش مع “قسد”، وتؤمن الحدود لتركيا وتكون بمثابة طلائع لحرس الحدود التركي الـ”جندرما”.
والهدف الثالث؛ تقوية المعارضة السورية ممثلة بالائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة سياسيًا وعسكريًا، من خلال منحها رقعة جديدة من الأرض تحت سيطرتها، والعمل ليكون لها عدد أكبر من القوات المسلحة سواء الأمنية أو العسكرية تحت قيادتها، ومساعدتها ليكون لديها نسبة أكبر من الشعب تحت إدارتها وحكمها.
لكن أي عملية عسكرية تركية سواء باتجاه كوباني/عين العرب أو أي منطقة أخرى شرق نهر الفرات بغرض استكمال الشريط التركماني-العربي على الحدود التركية السورية وإقصاء “قسد” بضعة كيلومترات جنوبًا بعيدًا عن الحدود هي عملية مرفوضة سياسيًا وإنسانيًا سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. فـ”قسد” ترفض هذه العملية رفضًا قاطعًا لأنها تستهدف مكتسباتها؛ بل ووجودها، وهي مستعدة لمواجهتها حتى آخر رمق، وغير مستعدة لخسارة شبر واحد من مناطق سيطرتها ونفوذها، وأي تفريط بأي مساحة تسيطر عليها لأي سبب يعني أن “المسبحة ستكرّ” وستخسر مناطق أخرى، لأنها في محيط شديد العداء لها وشديد الكراهية تجاهها، والكرد أنفسهم غير موحدين؛ بل بينهم انقسام عامودي حاد، وأي ضعف سيعتري “قسد” سيؤثر على “مسد” ويسجل نقطة لصالح غريمه المجلس الوطني الكردي الذي ينتظر على أحرّ من الجمر للانقضاض على المنطقة واستعادة السيطرة عليها، كما سيسجل للقوى السياسية المستقلة والإثنية وللقوى العشائرية العربية التي تتطلع أيضًا لأخذ دورها الذي تستحق في حكم المنطقة وإدارتها.
نظام الأسد أيضًا يرفض تمامًا التهديدات التركية، ويعتبر أي عملية عسكرية تركية إضعافًا سياسيًا له في مواجهة المعارضة، وأنها تُحبط كل ما فعله بالتعاون مع روسيا وإيران لطرد فصائل المعارضة من درعا والقنيطرة ودمشق وحمص وحماة وحلب وإدلب خلال سنوات 2016 و2017 و2018 وحشرها في جيبَين صغيرين من حلب وإدلب، فأيّ دعم أو تقوية تتلقاهما المعارضة يعني بالضرورة ضعفًا وحرجًا للنظام، وهو بالأساس منبوذ وطنيًا وعربيًا ودوليًا، ويعاني من الحصار والعقوبات والملاحقة القضائية، ولا يمكنه أبدًا السماح أو السكوت أو الوقوف متفرجًا على فصائل المعارضة وهي توسع رقعة سيطرتها، وسيكون مضطرا لمساندة “قسد” بكل ما يملك من قوة، رغم ما بينهما من عداء وتضاد. لكن براغماتية الطرفين تسمح لهما بالتعاون المحدود سواء ضد الأتراك أو ضد المعارضة.
جامعة الدول العربية أيضًا لا يمكنها قبول أي عملية عسكرية تركية في سوريا، وستكون شبه موحدة لتقديم كل الدعم اللازم لـ”قسد” لمواجهة العملية التركية، ليس حبًّا بالكرد ولا بالإدارة الذاتية، وليس كرهًا للمعارضة السورية؛ بل من باب المناكفة السياسية، بسبب دعم تركيا لبعض المعارضات العربية، وإيوائها للكثير من السياسيين والنشطاء السياسيين العرب المعارضين، وهو أمر تستاء من الحكومات العربية أشد الاستياء، وتعمل لإنهائه، عبر الضغط بكل السبل واستخدام كل الوسائل لثني تركيا عن دعم المعارضين العرب الذين يلجأون إليها. وسيكون من المناسب جدًا والمرحَّب به عند “قسد” تقديم بعض الدول العربية ما يلزم من دعم عسكري ولوجستي وسياسي لإحباط أي عملية تركية تستهدفهما.
بعض الدول الأوروبية أيضًا لن تقف على الحياد تتفرّج على الجيش التركي متوغلا داخل الأراضي السورية على حساب “قسد”، فالأوروبيون مستاءون من إدارة الرئيس أردوغان وحكومة حزبه لملف العلاقات التركية الأوروبية، وممتعضون من نجاح تركيا في الضغط عليهم لتمويل استضافة اللاجئين، سوريين وغير سوريين، وهؤلاء أكثر من عشرة ملايين شخص، ودائمًا ما يهدد أردوغان وحكومته بالسماح لطالبي اللجوء والمهاجرين التوجه نحو أوروبا؛ الأمر الذي يعتبره الأوروبيون خطرًا يهدد ديموغرافية قارتهم العجوز بالتغيير، ويهدد حكومات الأحزاب الحاكمة بالسقوط، ويثير قلاقل أمنية ومجتمعية هم في غنى عنها، ومؤكد أنهم سيقدمون كل ما يمكنهم تقديمه لإفشال هذه العملية التركية ضد “قسد”.
كذلك الولايات المتحدة الأمريكية، لا تبدو مقتنعة أبدًا بوجهة النظر التركية، وتعتقد أن مخاوف أنقرة غير مبررة، وتفضل دعم “قسد” والوقوف إلى جانبها، لكنها في نفس الوقت لن تفعل شيئًا ملموسًا إنْ أصرّ الأتراك على موقفهم وعزموا على إمضاء قرارهم. كما أن الأمريكان لا يعتبرون اقتطاع شريط جغرافي بمساحة خمسة أو عشرة آلاف كيلومتر مربع من مناطق سيطرة “قسد” الزائدة عن ستين ألف كيلومتر مربع أمرًا ذا خَطْب، لأنها بالأساس تمتلك علاقات سياسية جيدة جدًا مع المعارضة السورية التي تريد تركيا توطينها في هذا الشريط، وبالتالي لا شيء يهدد مصالح واشنطن أو يهدد تواجد قواتها في المنطقة.
روسيا وإيران موقفهما واضح سواء رسميًا عبر التصريحات الدبلوماسية، أو واقعيًا عبر دعم نظام الأسد بكل ما يحتاج. فالروس ما فتئوا يكررون رفضهم أي اعتداء على سيادة ووحدة سوريا، ويرفضون أي تدخل أجنبي لا يتم بطلب رسمي من حكومة النظام في دمشق، لكن حين ينجح الأتراك بالعثور على “غرض سياسي” تريده روسيا أو يحتاجه الرئيس فلاديمير بوتين سينجحون في كسب سكوت الروس وغضّ طرفهم عن العملية التركية، كما حدث ذلك خلال العمليتين السابقتين “غصن الزيتون” و”نبع السلام”.
والإيرانيون مثل الروس، لكن يتفوّقون عليهم برفض المساومة على نظام الأسد رفضًا قطعيًا، ولا يمكنهم على الإطلاق السماح بأيّ عمل من شأنه تقوية المعارضة السورية، خصوصًا على حساب النظام، ولا يمكنهم تقبُّل ذلك إلا مرغمين حين يقبل الروس. وعملية كهذه ستصب في صالح المعارضة لا محالة، ولا محالة ستُضعف النظام سياسيًا وعسكريًا، وطهران التي دفعت الأموال الطائلة وضحّت بأرواح الغالية لأجل مساندة نظام الأسد تعتبر كل ما تقوم به تركيا في سوريا يطيح بكل ما قدمته خلال أحد عشر سنة فائتة لمنع سقوط نظام الأسد، وإنْ كانت قد نجحت أحيانًا بإقناع الأتراك بتمرير بعض الصفقات لصالح النظام على حساب المعارضة كما في اتفاق المدن الأربع.
إنها مغامرة محفوفة بالمخاطر لا قِبَل لتركيا بها في راهن الوقت، ولا يبدو الأفق حاملًا لبشائر بتغير الظروف لصالحها، لكن الضغوط السياسية والاجتماعية الداخلية على الحكومة التركية تفتح الباب على كل الاحتمالات، وعلى كل الأطراف التعامل مع الأمر بكل الجدية، وأخذ كل الاحتمالات والمآلات بالحُسبان.
——
(*) عبدالرحمن ربوع هو صحفي وكاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى